– هذه هو فحوى الرسالة التي طلب مني هؤلاء توصيلها للإمام بأسرع وقت!
– ثلاث طائرات سودانية (وليست مصرية) قامت بضرب السرايا..
– تعطلت عربتنا اللاندروفر أربع مرات ونحن في طريقنا إلى أبا..
– عندما كان الإمام يقوم بتوديع الأنصار عقب صلاة الجمعة.. فجأة سمعنا أصوات إنفجارات.. ثم بدأوا يضربوا بالهاون والرصاص
– الأنصار هاجموا القوة المعتدية فانسحبت بذعر.. وغنموا عربة مجروس محملة بالمدافع والرشاشات
مدخل:
السيد نصر الدين الإمام الهادي هو أحد الشهود العيان على مشاهد أحداث الجزيرة أبا، ولعل الأقدار هي التي جعلته يتواجد هناك قبل ساعات فقط من وقوعها، بعد أن تم تحميله رسالة عاجلة إلى الإمام الهادي.. وخلال هذه الإفادات التاريخية يدلي إبن الإمام لأول مرة بمعلومات جديدة حول الأحداث خص بها (البقعة) وعن مشاهد تلك الأيام العصيبة وبطولات الأنصار في مواجهة آلة بطش نظام جعفر نميري.. ووجه السيد نصر الدين (الذي يشغل رئيس اللجنة العليا لإحياء الذكرى الخمسين لأحداث ١٩٧٠) أصابع الإتهام لمن يقفون وراء تدبير الأحداث، وتحدث عن الجانب القانوني وضرورة كشف حقيقة ما جري ومحاكمة المتورطين للتأريخ..
بعد مرور خمسين عاماً على أحداث الجزيرة أبا.. بالتأكيد فإن للسيد نصر الدين ما يرويه للتاريخ خاصة أنه كان أحد الشهود العيان على الأحداث؟
من المهم جداً في الذكرى الخمسين للأحداث أن يوثق الناس لما حدث بالضبط من شهود الأحداث الأحياء.. لذلك سأبدأ بروايتي أنا..
في ذلك الوقت أنا كنت في الثانوي، مدرسة الأهلية الثانوية.. والوالد والأسرة كلها في الجزيرة أبا. جاءني في يوم الخميس 26 مارس شخصان ” وكلاهما توفي إلى رحمة مولاهما” وهما المحامي فاروق البرير وهو زوج خالتي نعمات عبد الله الفاضل المهدي وكان داخل في العمل السياسي لحزب الأمة، ووالده علي بيه البرير المعروف للسودانيين في القاهرة. والشخص الثاني هو المرحوم مأمون أحمد أمين شرفي كان حينها رائد أو مقدم في القوات المسلحة. جاءوني في المنزل يوم الأربعاء بالليل وأخبروني أن هناك رسالة لابد أن تصل للإمام الهادي في أسرع وقت.. وقتها كان الطريق مقفولاً ولابد أن أتحرك مباشرة لإيصالها للإمام.. وفحوى الرسالة أن هناك قوة من الجيش قوامها لواء على ما أعتقد تحركت إلى الجزيرة أبا بغرض إعتقال الإمام وأنهم سيحاولون دخول الجزيرة أبا بالخديعة.
وماذا حدث بعدها؟
فعلاً تحركت فجر الخميس برفقة السائق المرحوم قريب الله الأمين مساعد وكان سواق الإمام.. وحدثت حكاية غريبة جداً، فرغم أن عربتنا اللاندروفر صغيرة وجديدة لكن منذ خرجنا من القطينة – الطريق كان ترابي ولم يكن هناك زلط آنذاك – وكنا كلما نرى (غبار) الجيش المتحرك للجزيرة أبا يحدث عطل في العربية، تعطلنا أربع مرات.. ووصلنا الجزيرة أبا يوم الخميس الساعة العاشرة مساء وقابلنا الأنصار في الجاسر ” كانوا عاملين حراسة فيه”.. وفهمنا منهم أنه جاءت قوة وأنهم حجزوها في الجاسر والأمام أمر (يفكوها).. فدخلنا للإمام الساعة العاشرة والنصف أو 11 بالليل وأنا أعطيته الرسالة. وقبلها طلب مني الأخوين مأمون وفاروق أن أحرق الرسالة مجرد أن يقرأها الإمام.. المهم أن الإمام قرأ الرسالة.. وأنا قلت أقول ليه الصباح بما وصاني به مأمون وفاروق.. قال لي هذا أمر الله هذا قدر الله.ب
عدها تكلمت مع الوالد بخصوص الرحلة المدرسية إلى بورتسودان، وكان الوالد على علم بها، قال لي ” خلاص صلوا معانا الجمعة وارجعوا”.. فعلا في اليوم التالي صلينا الجمعة في الجزيرة أبا، وبعد الجمعة كان هناك تقليد أن يقوم الإمام بتوديع الأنصار الذين يأتون من خارج الجزيرة أبا من المناطق القريبة بعد تناولهم وجبة الغداء.. وفي الواجهة الغربية من السرايا كان هناك مسطبة يجلس عليها.
نحن كنا مع الإنصار تحت والإمام والإمام يقوم بتوديعهم هذا كان حوالي الساعة الثانية والنصف أوالثالثة إلا، أي قبل صلاة العصر.. فجأة سمعنا أصوات إنفجارات.. في الأول بدأوا يضربوا بالهاون ثم بالرصاص. كان معي المرحومين محمد صادق الكاروري وقريب الله خليل. وقررنا أن نذهب من السرايا إلى الجاسر محل الضرب لنعرف الحاصل ـ وفعلا مشينا وكان هناك جيش مرتكز في مدخل الجزيرة الخارجي وكان يضرب بالهاون والرشاشات الثقيلة، والأنصار مرتكزين في الجانب الآخر من الجاسر ويقومون بالرد، لكن بنادقهم رشاشات بسيطة وعادية ” وبغيروا بس تكبير”.
وفعلاً أنا آمنت بالمثل القائل “الحي سبيبة والميت تبلدية” لأن الرصاص كان يمر بآذاننا وماف طريقة نرجع.. ارتكزنا حتى الضرب خف بعد حوالي ساعتين قريب المغرب. عرفنا أن الأنصار الذين صلوا وذهبوا طوالي أو الذين لم يصلوا جهة المرابيع والملاحة وعسلاية عندما سمعوا الضرب جاءوا راجعين للجزيرة ابا وفوجئوا أن القوة تحاصرها..
أنا كنت في الجانب الآخر من الجاسر لكن حكى لي أحد الشهود العيان ان الأنصاري خاتي القنبلة اليدوية في يده (وبعضهم عساكر في الجيش) وطالع في الدبابة وبيضرب فيها بالفأس من شدة الحماس وهجموا على القوة فانسحبت بذعر وماتوا من الجيش حوالي 5 أو 6 أفراد وغنموا من الجيش عربة مجروس كبيرة فيها مدافع هاون ورشاشات وذخائر.. حدث هذا حوالي الساعة الخامسة أو الخامسة والنصف.
بعدها رجعنا السرايا وأتوا بالشهداء للإمام وعددهم تجاوز التسعين شهيداً (هذا المنظر ما زال في ذاكرتي) ” كلهم مغطين بملايات بيضاء” الإمام دعا لهم وشال فيهم الفاتحة وقال يدفنوا بزيهم دون تكفين.. كانت الملاية توضع على الشهيد بيضاء ومن الدم تتحول إلى حمراء، وتم دفنهم بليلهم.
كان هذا في اليوم الأول يوم الجمعة.. طيب هل كان هناك أي إتصال مع الإمام قبل مجيئهم بغرض إعتقال الإمام؟
هذه الرواية الثانية، لكن الأنصار كانوا جاهزين منذ أن قرر نميري أن يزور النيل الأبيض ” وعملوا حساب في الجاسر منذ أن تحركت القوة من الخرطوم”، وقد كانت لديهم معلومات لأنها مرت بمناطق وحلّال أنصار. قاموا بعمل كمين وحفروا مدخل الجاسر في جهة الجزيرة أبا بعمق البحرـ الجاسر طبعاً طريق ترابي يفصل بين الضفتين هو شمال شرق الجزيرة أبا.. حفروا خندق وتركوا قوات الجيش تدخل، وعندما وجدت الخندق وقفت، وعندما حاولت ” تستعدل ترجع” وجدوهم قد حفروا من خلفهم، وهو ما يسمى بالمطرقة في التعبير العسكري..الأنصار إلتفوا حولهم بأعداد كبيرة من المتحمسين.
المهم الإمام عندما سمع بما حدث أرسل خالد محمد إبراهيم والفاضل علي المهدي والفاضل الإمام الهادي ” عشان يشوفوا الحاصل شنو”.. جاءوا لأبو الدهب وقال لهم أن لديه رسالة من الضباط الأحرار يريد تبليغها للإمام وعندما كلموا الإمام أمر بإحضارهم إليه بعد تأمينهم وحمايتهم.. ووقعوا إتفاق مع الإمام الذي أمر بإكرامهم وأعطاهم ذبائح وقال لهم ” طلعوهم”.. وبعد أن خرجوا من الجزيرة أبا تخلصوا من الذبائح في الشارع ” وهذه النية السيئة.. أي أنهم لا يريدون شئ يؤثر عليهم” وفي اليوم التالي بدأوا بضرب الجزيرة أبا..
طيب.. بعد ذهابكم إلى الجزيرة أبا هل صادفتم وجود هذه القوة المحتجزة؟
هذه القوات احتجزت يوم الخميس.. ونحن وصلنا بعد ما أطلقوها.. نحن لو الله أراد ووصلنا قبلها ” كان الجماعة ديل اتمسكوا رهائن” .. على كل حال كان لديهم قوة مقدرة.. كان لديهم مدرعات ورشاشات كان ممكن الإستفادة منها.
لكن البعض فسر ذهاب الإمام الهادي إلى الجزيرة أبا بأنه محاولة تمرد على سلطة الدولة؟
الغرض من وجود الإمام في الجزيرة أبا ليس شن حرب أو تمرد على الدولة الموجودة هو كان إحتجاج أو إعتصام (زي بتاع القيادة) إحتجاجاً على زوال النظام الديمقراطي وسيطرة حزب بعينه على الحكم في السودان.. وأرسل بذلك رسائل في كذا مناسبة.
وماذا كانت رد فعل قادة مايو على مواقف الإمام؟
جاءونا زيارات في الجزيرة أبا أبو القاسم محمد إبراهيم وفاروق حمد الله ” وشالوا الكلام دا”.. جاءوا بعذر أن الجزيرة أبا تابعة للسودان ومافيها نقطة بوليس. الإمام قال لهم الجزيرة أبا منذ عهد الإمام المهدي لم تحتاج إلى نقطة بوليس، فجعلوه يكتب تعهد إذا أي شخص جرح تكون هذه مسؤوليته. فهناك تسلسل أحداث يدل على أن وجود الإمام بالجزيرة أبا ليس تمرداً.. وحتى السلاح الذي جاء من الخارج أرسله الشريف حسين وذلك لحماية الإمام وليس شن حرب على الدولة.
كيف تنظر إلى قرار الرئيس نميري بزيارة النيل الأبيض في ذلك الوقت العصيب؟
عندما قرر نميري زيارة النيل الأبيض كان هناك نقاش لابد أن يوصل الأنصار صوتهم، والإمام كان مصراً على أن يقول الناس شعاراتهم فقط، وأهم حاجة فيها إزالة الواجهة الشيوعية من الحكم وإسترجاع الديمقراطية والمطالبة باالدستور الإسلامي.. في منطقة أم جر أحد الأنصار تحمس عندما رأي نميري فحمل سكينه وهجم عليه، هذه التي أخافت نميري فقطع زيارته ورجع كوستي ومنها للخرطوم.
بالعودة لأحداث أبا ماذا حدث في الأيام التي تلت القصف الذي طال السرايا؟
في نفس اليوم ضربوا السرايا بالطائرات .. بعد رجوعنا من الجاسر قامت ثلاث طائرات سودانية وليست مصرية بطيارين سودانيين بضرب السرايا..
(مقاطعة) تقول انهم سودانيون لكن البعض يذكر أن الميج ضمن سلاح الطيران في ذلك الوقت؟
هذا ليس صحيحاً.. الميج أتت بعد ثلاثة أيام واخترقت حاجز الصوت فقط وأنا شاهد على ذلك، وأذكر استشهاد الثريا بت الزاكي وكانوا مركزين على مكان وجود الإمام وهو بيتنا في السرايا. وكان الضرب بالمدفعية الثقيلة من منطقة الطويلة وربك وكوستي وعسلاية وكل جوانب الجزيرة أبا واستمر القصف إلى ما بعد صلاة المغرب.. بعد ذلك إجتمع الأنصار وقرروا خروج الإمام الهادي من السرايا إلى أحد بيوت الأنصار وبدأ يتنقل في كل يوم.. وذهبنا معه لمنزل جدنا السيد بشرى السيد حامد شمال الجزيرة ومكثنا هناك إلى أن هاجر الإمام، ورجعت أنا إلى البيت مع الوالدة والإخوان.
بعد أن قرر الوالد رجوعي وذهاب أخي الفاضل معه الذي كان قد أكمل المرحلة الثانوية في كوستي، وأنا كنت بصدد أن أمتحن الشهادة السودانية العام المقبل، وافترقنا بعد صلاة المغرب وهم توجهوا بعربة لوري
وهناك رواية لابد أن تروى لخروج الوالد عندما جلس وقرر شيوخ الانصار خروج الإمام من الجزيرة أبا حفاظاً على أرواح الناس وعليه، وفي ذلك الوقت بدأت المواد التموينية في النفاذ لحصار الجزيرة أبا، ولم نكن نعرف كم عدد الضحايا لأن الجزيرة أبا تقصف من كل الجهات وأصيبت الأسر والأطفال بالهلع، لكل ذلك قررت قيادة الأنصار خروج الإمام من أبا.
قرروا خروج قوة لفك الحصار وعلى رأسها محمد صالح عمر الذي جمع شباب الانصار واختار منهم خمسين متطوع
وقال لهم نحن طالعين في مهمة ما بنرجع منها تاني، وفعلا طلع قبل يوم لكن في توقيت خروج الإمام قبل صلاة المغرب هاجموا قوات الجيش في ربك الغريبة أنهم دخلوا دائرة المهدي في المحلج وحرقوهم فيه.. في ظل الفوضى التي حدثت خرج الإمام بالجاسر بعربة لوري ومعه مجموعة من الناس تجاه جبل موية واتجهوا جنوب الكرمك (بي تحت)..
بعدها بقليل نحن طلعنا مع الاسرة بعربتين لاندروفر معنا قريب الله سواق الإمام وعمنا الفاضل علي المهدي سائق عربية أخرى.. ووصلنا أم درمان ووجدنا ما حصل في ود نوباوي لذلك نزلنا في بيت السيد داؤد الخليفة في العباسية (حتي جاءوا يفتشونا لكن ما كانوا بعرفونا لأننا كنا أولاد صغار).. رجعنا البيت في ود نوباوي في اليوم التالي.. وفي العصر أذاعوا خبر إغتيال الإمام الهادي.
Discussion about this post