خمسون عاماً خلت والملف مازال مفتوحاً..
بين دموعه الغزيرة: شاهد عيان على موقعة الجزيرة أبا يروي المثير
مكاوي قاسم عمر يحكي قصة خنجر الإمام الشهيد..
قانوني : العدالة الإنتقالية مطالبة بالتحقيق في الأحداث لعدة إعتبارات
أنصاري: جرائم الإعتداء وتعذيب الشهيد الإمام لن تسقط بالتقادم
الشيوعي: من يتهمنا بمقتل إمام الانصار فليأت بالدليل!
الخرطوم: إبراهيم عبد الرازق
أحداث دامية ومجازر بشعة شهدتها الجزيرة أبا وودنوباوي والكرمك في مارس 1970 أدت لإستشهاد الإمام الهادي عبد الرحمن المهدي والآلاف من الأنصار مازالت تتناقل مشاهدها الأجيال.. هذه الأحداث فيها صور متعددة من الصمود والبطولة والوطنية وأخرى من الغدر والخيانة والإستبداد، قانونيون تمسكوا بالتحقيق ومحاسبة الجناة للتاريخ والعدالة، وآخرون اتهموا الأنصار بالإنشغال عن الملف، وسياسيون اتهموا الشيوعي بالتورط في الحادثة، لكن الأخير نفى واتهم مايو والبرجوازية الصغيرة والقوميين العرب.. وبين هذا وذاك يظل السؤال قائماً: من الذي قتل الإمام؟
مشهد أول:
أحمد غبيش حامد أنصاري من مدينة (الكومة) في شمال دارفور وأحد الذين شهدوا موقعة أبا 1970م زار مكاتب (البقعة) واسترجع أحداث ذلك اليوم. وخلال حديثه لم يتمالك دموعه التي فاضت وهو يتذكر التفاصيل المؤلمة التي لم تبارح ذاكرته.. قال إنه جاء إلى أبا في 1969م وكان متزوجاً وينتظر مولوداً، وأن مجيئه إلى أبا كان بإشارة من شيخ أنصاري لقيه في دارفور وأشار إليه للذهاب إلى هناك. ولم يكن يدري أن تلك المنطقة ستشهد تلك الأحداث المؤسفة، ومضي غبيش: (أنا أنصاري عطشان عديل كدي) وفي ذلك اليوم – وكان يوم الخميس 26 مارس 1970- وعقب صلاة العشاء قرأنا أذكارنا وكان كل شئ ينذر بأمر ما قادم. وفي اليوم التالي صلينا الجمعة وكانت الجزيرة مليئة بالأنصار وفوجئنا بعدد من المدرعات ترتكز في الجاسر وبدأوا في ضربنا، وزادت نوبة البكاء على غبيش وهو يقول ” والله العظيم الرصاص كان زي المطر” قاومنا بالسلاح القليل الذي نملكه وعدد من العساكر (فزوا) واستمر الضرب حتى صلاة المغرب. لم نكن نأكل سوى البليلة والإمام الهادي كان يحثنا على الصمود وتفويض الأمر إلى الله وترديد الآية القرانية ” كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله”.
مشهد ثاني:
مكاوي قاسم مكي عمر، وهو ابن سكرتير عام شباب الأنصار قبل سنوات خلت، زار مكاتب (البقعة) وتذكر أنه قام بزيارة والده الذي كان محبوساً في سجن كوبر على خلفية قيادته لمظاهرة انطلقت من مسجد السيد عبد الرحمن صبيحة الإعتداء على الأنصار في أبا، وتوجه حتي مباني السلاح الطبي الكائن الآن. وتابع مكاوي أن أبوه أخبره في كوبر أن ينطلق إلى منزلهم وبالتحديد في إسطبل الفرسة التي كانت تسمى (قدم الخير) وهناك سيجد (خنجراً) خاصاً بالإمام الهادي الذي توالت الأنباء عن هجرته إلى الحبشة، وأن يحمل هذا الخنجر ويسلمه إلى الإمام الهادي ولكنه وبطبيعة الحال حفظ الأمانة وسلمها لأهلها، وهي موجودة الآن بمنزل الإمام الهادي بأمدرمان. وأضاف مكاوي أن هذا الخنجر كان هدية من الأمير عثمان دقنة لإمام الأنصار وصار كل إمام يسلمه لمن يأتي بعده.
مايو والشيوعيون!
من جانبه قطع القيادي بالتجمع الإتحادي أمجد عوض عز الدين ان الحزب الشيوعي السوداني ليس بوسعه التنصل عن هذه الجريمة وتابع في حديثه لـ (البقعة) أن ما حدث كان جريمة لا براءة للنظام المايوي منها، لأنه جاء بإنقلاب غاشم ومقاومته أمر واجب على جميع القوى الحزبية، وأول تكوين لمقاومة النظام المايوي إنطلف من الجزيرة أبا، وجزء من الإسلاميين بقيادة محمد صالح عمر والشريف حسين الهندي من الإتحاديين. وأوضح أن النظام إعتدى على الشيوعيين في الجزيرة أبا بسلاح الطيران المدعوم، وبعد إرتكاب المجزرة في حق المدنيين خرج الإمام الهادي متوجها إلى الحبشه وواجه الإمام حرس الحدود وحاول مقاوتهم كما ورد في الروايات المؤكدة، لكن تم إغتياله في جريمة يتحمل وزرها النظام المايوي الذي هو بالضرورة مدعوم من الحزب الشيوعي والقوميين العرب، وكان يمكن للذين قتلوه أن يقوموا فقط بتسليمه لكن الإغتيال جريمة ينبغي أن يحاسب عليها في محكمة التاريخ.
ولا أعتقد ان الإعتذار واجب لكنه قضية خاصة بأولياء الدم لأن الإمام الهادي من جانب آخر هو شخصية عامة لكل السودانيين، وينبغي توجيه التهم للمتسببين في مقتله، لاسيما في عهد المدنية والديمقراطية والحقوق.
جريمة سياسية!
القانوني الرشيد هارون الرشيد وصف أحداث الجزيرة أبا بأنها جريمة سياسية، وتابع بقوله: هي جريمة ذات طابع سياسي وجنائي، لكن إطالة الأمد بجانب الظروف المحيطة بها تجعلنا لا نستطيع تحديد الفاعل بدقة، لكن من العدالة بمكان أن لا يضيع دم المسلم هدراً.
وقال إن النظام البائد بالتأكيد أهمل هذه القضية، لكن هناك شهود ومعلومات في ظروف متفاوتة، ولابد من فتح الملف من جديد في ظل هذه العدالة الإنتقالية، ففي دول أخرى هنالك قتلى ومفقودون منذ أكثر من خمسين عاماً تم تحديد أماكنهم وتوجيه التهمة لمن تسبب في قتلهم، لذلك أحداث الإختفاء والإستشهاد قد تسقط جنائياً بموت الفاعل لكن من ناحية سياسية لابد من رد الإعتبار وتقديم شهادة متكاملة الأركان عما حدث. وأضاف الرشيد: في مثل هذه القضايا أولياء الدم أو أصحاب الشأن إن لم يتحركوا فلن تكتمل الصورة، فالإدانة السياسية مهمة لأصحاب الشأن أو الحزب الذي ينتمي إليه الشهداء.
واستدل الرشيد بمحاولة إغتيال رئيس الوزراء عبد الله حمدوك منذ أيام، معتبراً أنها لا تبتعد كثيراً عن هذا الإطار، وأنه رغم حداثة المشهد ما تزال المعلومات ضعيفة، لكن عموماً من الأسلم أن يتم فتح جميع الملفات الجنائية والسياسية منذ العام 1956م وحتى الآن.
بقعة سوداء في التاريخ
ويرى الكاتب الصحفي أحمد الشريف عثمان أن دماء الأبرياء في الجزيرة أبا وودنوباوي ستظل بقعة سوداء في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني عطفاً على مذبحة بيت الضيافة. وقال إن تاريخ الإنسانية يسجل للشيوعيين سفك الدماء والإغتيالات والتصفيات الجماعية والإبادة للشعوب، فهذا التاريخ الأسود يأتي من أدبيات فكرهم القائم على العنف والإرهاب.
هاتوا الدليل!
الحزب الشيوعي السوداني نفى ما يتردد عن تورطه في مقتل الإمام، وأكد عضو اللجنة المركزية للحزب كمال كرار في حديثه (للبقعة) أن حزبه أصدر بياناً تبرأ فيه من إنقلاب مايو منذ يومه الأول. وأضاف أن أي وزر للنظام يتحمله النميري وما أسماهم البرجوازية الصغيرة والقوميين العرب، ومضي بالقول: حتى الوزراء الذين شاركوا في نظام نميري لم يكن ذلك بموافقة الحزب. وأرجع تلكم الإتهامات إلى أن مايو رفعت شعارات إشتراكية لكن كل من يرفع شعاراً إشتراكياً ليس بالضرورة أن يكون شيوعياً، وتابع كرار المجزرة التي حدثت مسؤولية النظام الديكتاتوري الذي هو بالضرورة يرتكب المجازر في حق الشعب، عسكرياً كان هذا النظام أم مدنياً. ولفت إلى أنه لا ينبغي التعامل مع هذه القضية في المناسبات والخمسينيات وكذا، بل يجب أن يهتم بها في إطار العدالة لأن هنالك شهداء وآلاف من الضحايا غير الإمام الهادي، فلابد من التحقيق في جرائم الإبادة الجماعية. واتهم كرار حزب الأمة القومي بالإنشغال عن هذه القضية، وأرجع ذلك إلى المصالحة التي أجراها مع مايو في 1977م.
وشدد كرار علي أهمية كشف الملابسات في يوليو 1971م وفي مارس 1970 لأجل العدالة والأمانة في كتابة تاريخ السودان. واختتم حديثه بالقول: من يتهم الحزب الشيوعي بالجريمة فليأت بالدليل.
مطالبة أنصارية!
تمسك عضو أمانة الدعوة والإرشاد بهيئة شؤون الأنصار د. بابكر إلياس محمد علي بالتحقيق والإدانة فيما حدث. وتابع أنه يقع ضمن جرائم الدماء في الفقه الإسلامي وهي لا تسقط بالتقادم ولا يستطيع أحد أن يتنازل عنها حتى إمام الأنصار نفسه، بل هي مطالبة مشروعة لأولياء الدم. وزاد: أن ما حدث كان من فئة ظالمة وحاكم إستبدادي وأعوانه من الشيوعيين، وأنها كانت جريمة إنسانية في المقام الأول ويحرمها القانون الدولي والإنساني لأنه لم يكن قتلاً مباشراً بل تعرض الإمام ومن معه للضرب والتعذيب أثناء الأسر، ورُوي أنه ترك ينزف حتي مات، وبالطبع هذا ليس من نبل العسكرية لأن الأسير له حقوق وواجبات تتعلق بمأكله ومشربه وملبسه، ومن المعلوم كيف كان يعامل الإسلام الأسرى أضف إلى ذلك أن الإمام كان رجلاً أمة ورمزاً دينياً ووطنياً لكل السودانيين.
Discussion about this post