د. محمد قرشي عباس
تكاثرت الأخبار بهذه الأيام عن ظهور سلالة شرسة من فيروس الكورونا، فهل هذا صحيح؟
علينا أولا ملاحظة أن تحذيرات كهذه لم تنقطع منذ بدء الجائحة، وأنها كانت _ في كل مرة_ تنتهي كإنذار كاذب، كما أن علينا الانتباه لأنه في الحقيقة هناك آلاف إن لم يكن ملايين النسخ المختلفة من الفيروس! وذلك ببساطة بسبب أن كل عملية نسخ للفيروس تحمل معها إحتمالا بحدوث خطأ ينتج تغييرا جينيا طفيفا به، ومع تصاعد أعداد الاصابات بالملايين وتكرار عملية النسخ بكل خلية مصابة من خلايا كل مصاب آلاف المرات، سنجد أن هناك فعليا آلاف النسخ المختلفة من الفيروس إن أعتمدنا في التعريف على مجرد الاختلاف الجيني.
لكن تعريف السلالة Strain لا يتعلق فقط بالاختلاف الجيني، بل هو في الأساس اختلاف وظيفي يجعل للنسخة الجديدة خصائص بيولوجية شديدة الاختلاف من أسلافها، سواء في قدرتها على العدوى أو تسببها بالمرض أو سرعة انتشارها، إلخ. أما مجرد الاختلاف الجيني مهما كان كبيرا فهو لا يؤدي لسلالة جديدة بل لما نسميه بالمعزول Isolate أي مجرد اختلاف غير وظيفي. فيروس الكورونا تمتد سلسلته الوراثية بطول 30 ألف حرف، والتغيرات التي يتوقع منها تغييرا بيولوجيا في خصائصه إنما تشمل جزءا ضئيلا من هذا السجل الكبير، لذا فمن الطبيعي أن يكون لدينا العديد من المعزولات المختلفة التي تختلف جينيا فيما بينها دون تأثير على الطبيعه البيولوجية للفيروس.
التغيرات الأخيرة الملاحظة تتعلق حقا بأجزاء هامة في الخصائص (مثل الجينات المشفرة للبروتين الشوكي المستعمل في دخول الخلايا) لكنها تستند في ادعائها على مجرد الانتشار النسبي الأوسع لمعزولات بعينها على غيرها، مع ادعاء أن هذا الانتشار يفسر بفعالية بيولوجية أشد ضراوة لها. لكن هذا النوع من التعليل يعتبر ضعيفا لأن آليات التطور العشوائية كالانجراف الجيني والانسياب الجيني يمكن أن يكون لها اليد الطولى في ديناميكيات الانتشار على الانتخاب الطبيعي والطفرات. وبعبارة أخرى، فإن سيادة نسخة بعينها من الفيروس تكون عادة بسبب من الصدفة التي جعلتها أسرع انتشارا وليس بسبب كونها أنجح بكثير من سواها في العدوى أو الانتشار.
أثر الانتشار العشوائي هذا يمكن توضيحه بما يسمى بأثر المؤسس، فمن المعروف أن سيادة فصيلة الدم (و) بالهنود الحمر بأمريكا يعود لأن أسلافهم القلائل الذين قطعوا مضيق بيرنق قبل عشرات آلاف السنين قد كانوا من ذوي هذه الفصيلة بالصدفة، مما أدى لسيادة جينات هذه الفصيلة في أحفادهم حتى اليوم. الشيء الآخر الهام هو أن الانتخاب الطبيعي الذي يتحكم في ما إذا كانت طفرة بعينها ستسود أم تختفي، يعرف عنه الضعف بالمجموعات الكبيرة الناجحة من الأفراد، فعادة ما تحدث التغيرات الكبيرة في النوع الحي حين يتهدد وجود المجموعة وتقل أعدادها بدرجة كبيرة لأسباب بيئية مختلفة تهدد تكيفها، لذا فمن المرجح أن يكون فيروس الكورونا قد مر فعلا بعملية إنتخاب جعلته أكثر شراسة في بدء ظهوره الأولي حين كانت أعداده قليلة جدا، بحيث فازت النسخة الأكثر تكيفا وشراسة بسباق الانتخاب فانتشرت من بعد في العالم، لكنها اليوم لا تعاني من أي ضغط انتخابي يحتم عليها التطور السريع، بسبب من توافر مخزون وافر من البشر للعدوى، فعادة ما يكون التطور محافظا جدا ولا ينحو للتغيير إلا حين تحتمه الأوضاع.
أخيرا فإن ما حدث بجائحة الانفلونزا الأسبانية عام 1918 من تطور شرس للفيروس تسبب بموجة ثانية قاتلة، إنما يرجع في الغالب لتزامن ثلاثة أسباب: إنتشار المرض حينها بنجاح بكل العالم مما قلل من إمكانية استمراره بنفس شكله القديم بسبب بدء ظهور آثار مناعة القطيع، إستعمال غاز الخردل بساحات المعركة بالحرب العالمية الأولى مما تسبب في حدوث طفرات واسعه غير طبيعية بالفيروس، وإجلاء المصابين ذوي المرض الحاد من ساحة المعركة مما منح الفيروس الأشرس أفضلية الانتشار الأوسع بالعالم مع الجنود العائدين بفضل المرض الشديد لأوطانهم بينما مات ذوي المرض الأخف بالقتال!
الخلاصة: لا يوجد دليل مقنع على ظهور فيروس أكثر شراسة من سابقه، بل أن التوقعات النظرية من البيولوجيا التطورية تقف سدا منيعا ضد هذا التطور حاليا.
#متابعات_محمد_قرشي_لكوفيد19
Discussion about this post