
أصل القضية … إثيوبيا إلى البحر… ومَن يدفع الثمن؟..
بقلم/ محمد أحمد أبوبكر – باحث بمركز الخبراء العرب
تمهيد: حين تُحرِّك الحاجةُ الجغرافيا… ويُمحى الوطن باسم “الوظيفة”
لم يكن تصريح آبي أحمد بشأن “أهمية الوصول إلى البحر الأحمر” مجرد تفجير إعلامي في بحر السياسة. بل كان خطوة تكشف عن لحظة مفصلية تُصاغ فيها الجغرافيا بالحاجة، وتُستباح فيها السيادة بالرغبة، ويُدار فيها الإقليم من خارج حدوده، بأدوات داخلية.
لكن ما كان يبدو وقتها قراءة استراتيجية متقدمة، بات اليوم اعترافًا موثّقًا.
الرئيس الإريتري أسياسي أفورقي، بنفسه، خرج ليفضح ما كان مستترًا: إثيوبيا ليست إلا واجهة، والمُخرِج في أبوظبي.
١. إثيوبيا لا تبحث عن البحر… بل تُؤجِّر جسدها لمشروع خارجي
● حين قال آبي أحمد إن الوصول إلى البحر “قضية بقاء وطني”، لم يكن يعيد تعريف الجغرافيا فقط، بل كان يتخلى عن المفهوم التقليدي للدولة.
● لكن تصريحات أفورقي قطعت الشك باليقين: ما تفعله إثيوبيا هو تنفيذ خطة جيوسياسية إماراتية، وليست مبادرة إثيوبية مستقلة.
■ أسمرا ترى في حزب الازدهار أداة تُكدّس السلاح لتأديب الجيران، وتفتح ممرات، وتُجهّز لمعركة نيابةً عن أجندات لا تنتمي للقارة.
➤ وهذا يُعيد تعريف وظيفة الدولة ليس بحسب مواطنيها، بل بحسب قابليتها للانخراط في مشاريع إقليمية مدفوعة من الخارج… بمقابل!
٢. من الجغرافيا إلى الوظيفة: الدول لم تعد أوطانًا… بل مكاتب تشغيل
تصريحات أفورقي فتحت الستار عن الخريطة الجديدة:
■ الإمارات تدير الموانئ، تُموّل المشاريع، تُسلّح الشركاء، وتُعدّل التوازنات من خلف الستار.
● لم تعد الدولة منصة لصوت شعبها، بل وظيفة تؤديها من خلال وكلاء محليين.
● لم تعد السيادة مفهوماً وطنياً، بل امتيازًا تفاوضيًا يُمنح لمن يرضى بالتشغيل من الخارج.
■ هذه ليست إثيوبيا فقط. هذا شكل جديد من “الدولة الوظيفية”.
➤ ويبدو أن “نهاية الجغرافيا” لا تعني غيابها، بل إعادة هندستها على مقاس المصالح، لا الشعوب.
🔺 وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الخرطوم كانت أسبق من أسمرا في فضح هذا النهج؛ ففي إحدى لحظات صحوها السيادي، سمّت الإمارات صراحةً “دولة عدوان”، واتهمتها بأنها تؤدي وظيفةً بالوكالة لصالح مجموعة قوى دولية كبرى، تسعى لإعادة تشكيل المنطقة عبر نسخة جديدة من سايكس–بيكو… ولكن هذه المرة مخصصة للشرق الأوسط وأفريقيا.
➤ إنها قراءة لم تُستثمر كما ينبغي، لكنها اليوم تكتسب مصداقيةً مؤلمة كلما انكشف المستور، وتوالت شهادات الداخل.
٣. البحر الأحمر… مشروع إماراتي في جسد إثيوبي؟
إدارة ميناء عصب، ودعم سد النهضة، والعلاقات مع أسمرا وأديس أبابا، ليست صدفة.
أفورقي سمّى الأشياء بمسمياتها:
> “الإمارات تُدير مغامرة توسعية متهوّرة عبر أذرع تنفيذية، وعلى رأسها آبي أحمد”.
ليس مجرد دعم لوجستي. بل “تحكُّم كامل بمفاتيح البحر الأحمر”، وخريطة جديدة تُرسم من أبوظبي، وتُطبّق في الهضبة الإثيوبية، وتُفرض بالقوة إن لزم الأمر.
➤ وهكذا يتحوّل البحر من فضاء سيادي مشترك، إلى ساحة لوجستية مفتوحة لمن يملك المال والسلاح، لا التاريخ ولا الجوار.
٤. السودان: بين صمتٍ قاتل… وتطويق جيوسياسي مكتمل الأركان
في ظل هذا المشهد، يبقى السودان الطرف الأكثر تأثرًا، والأقل حضورًا.
■ السودان ليس طرفًا جانبيًا، بل الحلقة المفصلية التي تُراد تهميشها.
● صمته يفتح المجال لتجاوز موانئه.
● تأخُّره يمنح الآخرين فرصة السيطرة على حدوده.
● انتظاره يحوّله من “جسر ومورد” إلى نقطة عبور لصالح مشاريع الآخرين.
➤ والمفارقة أن السودان يمتلك أوراقًا استراتيجية لا يملكها غيره: شريان النيل، بوابة البحر، خط الجوار مع الفاعلين. لكن افتقاره للرؤية الاستباقية، وتعثُّره في صياغة موقف وطني موحد، جعله قابلاً للتجاوز.
■ السودان اليوم لا يملك رفاهية الوقت، بل ضرورة إعلان موقعه في الخريطة الجديدة، انطلاقًا من رؤيته لا من ردود فعله.
➤ والمبادرة هنا لا تعني الصدام، بل تفعيل أدوات الجغرافيا الذكية… وهي جوهر استراتيجية الجسر والمورد.
٥. الدولة تنهار… حين تُملى القرارات من الخارج، ويُخرس الداخل
مع كل بندقية إماراتية تُسلّم لإثيوبيا، ومع كل طائرة تُحلّق في الفضاء الإريتري، ومع كل صمتٍ سوداني، تسقط لبنة من لبنات الدولة الوطنية.
● الشعب؟ يُختزل في الصمت، لا يُستشار ولا يُؤخذ برأيه.
● السيادة؟ تُدار بالعقود من الخارج.
● الجغرافيا؟ تتحول إلى خطوط شحن، لا خرائط حياة.
➤ ما يحدث ليس مجرد إعادة ترتيب للأدوار… بل تفكيك منظم لدور الدولة نفسه، واستبدال الوطن بوظيفة تؤديها كأنها شركة مساهمة، تُدرج في سوق النفوذ وتُقيّم وفق قابلية التشغيل!
أصل القضية: هل ما زال للبحر ضفّةٌ اسمها الوطن
إثيوبيا تتقدّم للبحر… لكن بأقدام غيرها.
والإمارات ترسم الخريطة… بألوان من دماء الآخرين.
وإريتريا تصرخ اليوم… بعدما كانت بالأمس صامتة.
والسودان… قد لا يجد ما يدافع عنه إن ظل صامتًا أكثر.
➤ هذه ليست دعوة للحرب، بل دعوة للبصيرة، واليقظة، والرؤية الجامعة.
إن لم نصُغ نحن دورنا، صاغه غيرنا.
وإن لم نعرف موقعنا في الخريطة الجديدة، سنُمحى منها.
وإن لم نحمي البحر، فلن يبقى لنا نهر.
🔻وليس بعد الجغرافيا المُمتهنة… سوى خريطة بدون شعب، ووطن بلا سيادة.