
أصل القضية.. إدارة الوجود الأجنبي في السودان… من العبء الى الفرصة
محمدأحمد أبوبكر – باحث بمركز الخبراءالعرب
في لحظة فارقة من عمر الدولة السودانية، تصطدم أسئلة البقاء بأسئلة البناء، وتتصدر ملفات الأمن الوطني والمعاشي قائمة الأولويات الملحّة. من بين هذه الملفات الشائكة، يبرز ملف الوجود الأجنبي غير المشروع بوصفه أحد أكثر التحديات تعقيدًا وتأثيرًا في الأمن المجتمعي والاقتصادي.
لكن، قبل أن نطلق صفارات الإنذار، لا بد أن نحدد:
■هل نحن أمام قضية أمنية، أم ظاهرة اقتصادية واجتماعية مركبة؟
■وهل الاستجابة الحادة عبر الحملات الشرطية وحدها كافية، أم أننا بحاجة إلى رؤية إستراتيجية شاملة لإدارة هذا الوجود، لا محاربته فقط؟
🔍 متى بدأ وجود الأجانب في السودان؟
ربما لم يُطرح السؤال بهذه الصيغة من قبل، رغم بداهته. فنحن لا نتحدث هنا عن “الوجود الأجنبي” كمصطلح أمني أو سيادي أو تهديدي فقط، بل عن وجود غير السودانيين في السودان: عمالًا، نازحين، لاجئين، مغامرين اقتصاديين، وحتى أفرادًا اندمجوا بلا أوراق، أو بأوراق صارت سودانية فجأة.
> الأزمة ليست فقط في وجودهم، بل في غياب منظومة إدارية وتنظيمية تتعامل معهم بميزان القانون والواقع معًا.
📌 فبداية القصة ليست أمنية، بل إنسانية واقتصادية واجتماعية أيضًا… لكن لأننا كدولة غالبًا ما نبدأ التحليل من النهايات لا من الجذور، فقد صار “الوجود الأجنبي” يعني فقط التسلل غير المشروع أو الجماعات المتفلّتة، دون التوقف عند سؤال:
> لماذا يختار الأجنبي السودان أصلًا؟ ومتى بدأ ذلك؟
🎯 من التصنيف إلى التوظيف: رؤية الجسر والمورد
وفق رؤية الجسر والمورد، فإن كل تحدٍّ يحمل في داخله بذرة مورد، إذا أُحسن توجيهه.
ولذلك، نقترح تصنيفًا جديدًا لغير السودانيين في البلاد لا يبدأ من تصنيفهم كخطر، بل من زاوية الإمكانات القابلة للتحويل:
١. العمالة الأجنبية (الرخيصة أو الماهرة).
٢. اللاجئون والنازحون من دول الجوار.
٣. التجار والرواد الاقتصاديون من دول أفريقية وآسيوية.
٤. المُندمجون بلا وثائق (زواج، هجرة تقليدية… الخ).
٥. الوجود الأجنبي المرتبط بمصالح استخباراتية أو سياسية أو تمردات مسلحة.
■ومع أن الفئة الخامسة هي الأخطر، فإن تركيز الدولة عليها فقط دون رؤية شاملة للفئات الأربع الأخرى يجعلنا نضيّع فرصًا استراتيجية حقيقية.
📌 من العجز إلى الإدارة: لا ترحيل بل تفعيل
في ظل هشاشة الحدود الممتدة مع ٧ دول، فإن الحديث عن منع الوجود الأجنبي يبدو أحيانًا كمن يحاول وقف البحر بمنخل.
السؤال الأهم إذن ليس: كيف نطردهم؟
بل:
> كيف ندير وجودهم ونجعلهم موردًا؟
وللإجابة، نقترح آلية وطنية واقعية تقوم على:
١. 🧩 الاعتراف بالواقع بدل الإنكار
●وجود الأجانب حقيقة، وبعضهم باقٍ سواء شئنا أم أبينا، لأسباب إنسانية أو اقتصادية أو جيواستراتيجية.
٢. 📋 تحفيز الحصر الطوعي للأجانب
وليس فقط المطاردة والترحيل. عبر إتاحة عروض مشجعة للتسجيل الرسمي مثل:
●تصاريح عمل مؤقتة برسوم رمزية.
●فرص تدريب مهني مقابل الخدمة المجتمعية.
●حوافز ضريبية أو خدمات علاجية مخفضة مقابل التسجيل.
٣. 🧭 تحويل الأجانب إلى شريحة اقتصادية إنتاجية
كأن تُلزم الشركات التي توظف أجانب بتدريب السودانيين مقابل التوظيف، أو فرض نسبة عمالة محلية.
🏛️ مؤسسات الدولة: غياب التنسيق أم غياب الرؤية؟
●السؤال المحوري في كل هذا: من يدير ملف الأجانب؟
■هل هي دائرة شؤون الأجانب بوزارة الداخلية فقط؟ أم أن دورها بات مجرد تحصيل رسوم وجباية إقامات؟
■أين دور وزارة العمل؟ هل تكتفي بإصدار لوائح دون ربط حقيقي بسوق العمل المحلي؟
■ماذا عن وزارة الشؤون الاجتماعية؟ أين مبادرات إدماج الأجانب في المجتمعات بآليات ذكية تحفظ أمن الدولة وتقلل الاحتقان؟
■ووزارة الخارجية؟ هل تستخدم الأجانب كجسر لتقوية علاقات السودان مع دولهم الأصلية أم تعتبرهم عبئًا إضافيًا؟
> إن محاربة الوجود الأجنبي غير المشروع دون حلول واقعية تُخفي خلفها تبريرًا لعجز الدولة عن حماية الحدود وضبط سوق العمل والاقتصاد غير الرسمي.
✨وفق رؤية الجسر والمورد، يمكن تحويل هذا التحدي إلى فرصة:
●بإنشاء منصة إلكترونية موحدة لتسجيل وتصنيف الأجانب (لاجئ، عامل، زائر…)
●وتفعيل آليات الاتفاقيات الثنائية والإقليمية لضبط وتنظيم الوجود، بدلًا من جعله عبئًا
●وابتكار برامج إدماج مهني مؤقتة للأجانب النظاميين بما يضمن مساهمتهم الضريبية والتنموية بدلًا من تسربهم للسوق الأسود.
🌟 من محاسن الصدف…
أنه رغم كل هذا الاحتقان حول ملف الأجانب، فإن مقالي هذا لم يكن في الأصل موضوعًا مخططًا له.
بل جاء امتدادًا لبرنامج “أصل القضية” على شاشة تلفزيون ولاية الخرطوم من (سبع سنوات) ، الذي كان ترتيبه الإلهي صدفةً لم أرعَ لها، لكنها قادتني لطرح هذا المقال في امتداد طبيعي لا يخلو من الإلهام.
أصل القضية،،،لسنا ضد الأجانب… بل مع الوطن. ومع كل من يسهم في بنائه.
نحن في حاجة ملحة إلى إدارة أكثر واقعية وإنسانية وشجاعة لهذا الملف.
فترحيل الأجانب ليس حلًا، بل قنبلة موقوتة.
ورؤية الجسر والمورد لا تعد بحلول سحرية، لكنها تقترح تحويلاً منهجيًا للأزمات إلى فرص…
فما دمنا لا نملك رفاهية الحصر الكامل، فلنتقن فن الاحتواء الذكي.