
أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. الإعمار الوطني… بناءٍ للمدن و بعث للوعي
| من سلسلة الجسر والمورد
> “ليس أخطر ما تهدمه الحروب هو البيوت، بل ما تُسقطه في داخل الناس من جدرانٍ غير مرئية.”
في لحظة ما بعد الانكسار، تتجه العيون إلى الخرائط، بينما ينبغي أن تتجه القلوب إلى النسيج — إلى ما تآكل بيننا من ثقة، وما ضاع منا من وعيٍ جمعي، وما تمزق من معنى العيش المشترك.
فالإعمار لا يبدأ حين تشتغل الآليات، بل حين يشتغل الضمير.
ومن هنا، يطل سؤالنا الجوهري:
هل يمكن أن ينهض وطنٌ لم يُرمَّم نسيجه بعد؟
من الحروب إلى الحركات
في قراءة هانك جونستون، ليست الدولة نقيض الحركات الاجتماعية، بل هي نتاجها:
الحركات تصوغ المعنى، والدولة تجسّده في المؤسسات.
فحين يغيب الوعي الجمعي، تفقد الدولة روحها، وتتحول إلى هيكل بلا ضمير.
الإعمار الوطني في السودان إذن ليس خطة إنشائية، بل حركة مجتمعية إصلاحية في جوهرها، تشبه تلك الموجات التاريخية التي تعيد رسم العلاقة بين الناس والسلطة، بين الذاكرة والأمل، بين الوعي والفعل.
إنها محاولة لتشييد الدولة من الأسفل، من نسيج الناس لا من طوابق البيروقراطية.
المجتمع كمورد سيادي
ليس النفط ولا الذهب ولا الأرض هي رأس مال السودان الحقيقي، بل ثقته الداخلية.
وحين تتآكل هذه الثقة، تتآكل معها كل الموارد الأخرى.
من هنا تأتي رؤية “الجسر والمورد”: أن المجتمع هو الجسر الذي تعبر عليه الدولة نحو المستقبل، والمورد الذي تستمد منه شرعيتها.
فالإعمار الوطني مشروع لبناء الثقة كمؤسسة، لا كعاطفة عابرة.
أن تُصلح ذات بينك يعني أن تُعيد تأسيس المعنى المشترك.
وأن تعتصم يعني أن تجعل من الوحدة فعلاً إراديًا واعيًا، لا صدفةً تاريخية.
من الخراب إلى الوعي
ليست معارك الخراب سوى فواتير الوعي المؤجل.
حين تتفكك المجتمعات، تفشل الدول في تمثيلها.
وحين تتشظى الهويات، تتشظى معها إرادة الحياة.
لذلك فإن الإعمار في السودان لا يعني “استعادة ما كان”، بل “إعادة تعريف ما يمكن أن يكون”.
أن نعيد بناء الوطن لا كما كان قبل الحرب، بل كما ينبغي أن يكون بعدها:
أكثر وعيًا، أكثر إنصافًا، وأكثر تماسكًا.
دلالات على الواقع السوداني
اليوم، يقف السودان عند مفترقٍ نادر في تاريخه الحديث:
فما يجري تحت عنوان الإعمار الوطني ليس مجرد مسارٍ لإعادة بناء ما تهدّم، بل امتحانٌ أخلاقي للدولة والمجتمع معًا — هل نستطيع أن نُصلح ذات بيننا قبل أن نبني؟
لقد آن للسودان أن ينتقل من “سياسات الإغاثة” إلى “ثقافة الإحياء”، من ردّ الفعل إلى الفعل الواعي، ومن التنافر الأهلي إلى المصالحة التاريخية.
فالمجتمع السوداني يملك من رأس المال الاجتماعي ما يجعل الإعمار ممكنًا، لكن النجاح يتوقف على لحظة الوعي: أن يُدرك الناس أن ما يوحّدهم أعمق مما فرّقهم.
حين تنجح مبادرات الإدارات الأهلية، والجامعات، والمجتمع المدني، والشباب، في التلاقي تحت مظلة “الإعمار الوطني”، فإنها لا تخلق مشاريع، بل تؤسس عقدًا اجتماعيًا جديدًا تُولَد منه دولة أكثر رسوخًا في معناها، وأصدق في تمثيلها لمواطنيها.
> فالإصلاح هنا ليس سياسة، بل مصير.
والاعتصام ليس شعارًا، بل طريق نجاة.
ومن يعيد بناء النسيج، يعيد بناء الوطن.
لحظة الإصلاح والاعتصام
> “فَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ… وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا”
هذه ليست آية تُتلى في مناسبات الصلح، بل دستورٌ لبقاء الأمم.
الإصلاح هو الوعي بالشرخ، والاعتصام هو الإرادة لتجاوزه.
وما بينهما تقوم مهمة الإعمار الوطني: أن يُعيد الناس اكتشاف بعضهم بعضًا، وأن تعود الدولة لتتعلم من مجتمعها معنى القوة الأخلاقية.
وحين يحدث ذلك، لا تكون الدولة مجرد سلطة، بل تجربة روحية جماعية — تتقاطع فيها السياسة بالضمير، والهوية بالأمل، والوطن بالمصير.
> السودان اليوم أمام فرصة نادرة: أن يُعمّر نفسه بالناس قبل الحجر، وبالمعنى قبل المؤسسات.
فإن أصلحنا ذات بيننا، واعتصمنا، فذلك هو الإعمار الحقيقي الذي لا تهدمه الحروب بعد اليوم.
– باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية