رأي

أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. الإنسان السوداني بين آلة الإدراك وصندوق الصدى …

| من سلسلة الجسر والمورد

في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد، رسم هربرت ماركوز صورة لإنسانٍ فقد قدرته على التمييز بين ما يفكر فيه وما يُفكَّر له؛ بين ما يراه بعينه وما يُصاغ له في شاشته.

وبعد عقود، جاء مارك دوغان وكريستوف لابي ليكشفا الوجه الآخر لتلك النبوءة في الإنسان العاري — الإنسان الذي نزع عنه العالم الرقمي كل غطاءٍ من الخصوصية، فصار عارياً أمام الخوارزميات، مكشوفًا أمام هندسة الوعي الجماعي.

لكن المشهد الأكثر فجاجة لم يكن في الغرب الصناعي، بل في السودان…

في وطنٍ يخوض حرب الكرامة منذ أبريل ٢٠٢٣م، وُلدت “الإنسانية الرقمية” وسط ركام المدن، وأصبح الوعي العام ساحة معركة موازية للميادين العسكرية.

■ حين صارت الحرب تُدار بالعقول لا بالمدافع

في حروب الأمس، كانت المعارك تُكسب بالقوة النارية.

أما في حرب الكرامة، فقد صار النصر الحقيقي يُقاس بقدرة كل طرف على هندسة الرأي العام:

كيف يصنع الرواية؟

كيف يوجّه المشاعر؟

كيف يحوّل الهزيمة إلى بطولة، والدمار إلى خطاب تعبوي يضمن بقاء النفوذ؟

تحولت المنصات الرقمية إلى ميادين معنوية، فيها يُساق المواطن نحو اتجاهٍ ذهنيٍّ محدد:

يندفع حين يريد صانع الخطاب، ويسكت حين يُراد له أن يصمت.

ماركوز كان يسمي ذلك “الرضا الزائف” — أن تظن أنك تختار، بينما الخيارات نفسها صُمّمت مسبقاً.

أما دوغان فيسميه “العُريّ الإدراكي” — أن تُسلب منك القدرة على قراءة ما وراء الصورة.

وفي السودان اليوم، يعيش المواطن كلا الحالتين معًا:

إنسانٌ مستلب الإرادة، ومكشوف الوعي.

■ صناعة الإدراك الجمعي: كيف تُهندس الحرب داخل العقول؟

منذ أبريل ٢٠٢٣م، شهد السودان واحدة من أعقد عمليات إدارة الإدراك الجماعي في التاريخ الحديث:

تَحوَّل الإعلام إلى هندسة نفسية جماهيرية، لا تنقل الحدث بل تصنعه.

وأصبحت الصورة أداة توجيه سياسي بامتياز.

وتولّت المنصات الاجتماعية تشكيل “الضمير الجمعي” عبر قصصٍ جاهزة: بطلٌ وضحية، خائنٌ ومخلص، نازحٌ ومُعتدٍ عليه.

لكن خلف كل قصةٍ، كان هناك مصمّم للرواية يدرك أن التحكم في الإدراك أهم من السيطرة على الأرض.

فمن يملك وعي الناس يملك قرارهم، ومن يحدد زاوية النظر يحدد مصير الوطن.

هنا تتجلى فكرة ماركوز الكبرى:

“الحرية الحقيقية لا تعني أن تقول ما تشاء، بل أن تدرك من الذي جعلك تقول ما تشاء.”

■ السودان بين البُعدين: وعيٌ مستلب وجسدٌ منهك

لقد انكشفت المأساة المزدوجة للإنسان السوداني:

جسدٌ يواجه الموت، ووعيٌ يواجه الخداع.

فما لم تفعله القذائف، فعلته الخوارزميات.

●كل إشعارٍ على شاشة الهاتف كان يُعيد توجيه المزاج العام، وكل بثٍّ مباشرٍ كان يُعيد صياغة الخريطة النفسية للشعب.

●صار الفضاء الرقمي هو الميدان الذي تُدار فيه الحرب الكبرى: حرب المعنى.

وحين تسيطر على المعنى، يمكنك أن تُعيد تشكيل الذاكرة الجماعية، فتجعل الضحية متّهماً، وتحوّل المأساة إلى “ترند” مؤقت، وتُلهي الناس عن السؤال الأكبر:

من المستفيد من استمرار هذا الاضطراب؟

■ من منظور رؤية الجسر والمورد: وعي الإنسان هو المورد الأعظم

حيث انه وفق رؤية “الجسر والمورد”، لا يُقاس المورد بما يُستخرج من الأرض، بل بما يُستخرج من الوعي.

الذهب والنفط ينفدان، لكن العقل المستنير لا ينضب.

ولهذا فإن أعظم معركة يخوضها السودان اليوم ليست معركة السلاح، بل معركة الوعي الوطني الحر:

وعيٌ يرفض أن يكون أداة في هندسة الآخرين.

●وعيٌ يستعيد قدرته على التمييز بين الحقيقة والبروباغندا.

●وعيٌ يرى في التقنية وسيلة للنهضة لا أداةً للهيمنة.

فكما أن الحرب دمّرت الجسور المادية، فقد هدمت أيضًا الجسور الذهنية بين أبناء الوطن.

والوقت قد حان لإعادة بنائها، عبر وعيٍ نقديٍّ جديد لا يخشى السؤال، ولا يخضع للتلقين.

■ نحو وعي دبلوماسي جديد

الدبلوماسية الحديثة لم تعد فقط إدارة للعلاقات بين الدول، بل أصبحت إدارة للروايات بين الشعوب.

ومن هنا، فإن بناء خطابٍ دبلوماسي سوداني في مرحلة ما بعد الكرامة، يتطلب استعادة زمام المبادرة في السرد،

وتحرير صورة السودان من “إطار الضحية” إلى “إطار الدولة القادرة على إعادة تعريف ذاتها”.

هذه ليست مهمة المتحدثين الرسميين وحدهم، بل مهمة كل كاتبٍ ومثقفٍ وصانع محتوى، ومستخدم لمواقع التواصل الاجتماعي: أن يُعيدوا تشكيل الرأي العام الوطني والعالمي على قاعدة الوعي لا العاطفة، والحكمة لا الغضب.

 

وحتى ذلك الوقت الذي يجف فيه مداد هذا المقال، سيبقى السؤال مطروحا :

هل سنظل نُعاد إنتاجنا كإنسانٍ ذي بعدٍ واحد، أو عارٍ بلا وعي؟

أم سنصنع إنسان السودان الجديد — إنسان الجسر والمورد — الذي يعبر من الفوضى إلى الفكرة، ومن الحرب إلى الحكمة؟

الجواب ليس في الخطابات ولا البيانات،

بل في اللحظة التي يقرر فيها الإنسان السوداني أن يستعيد حقه في التفكير… بنفسه.

#أصل_القضية – الجسر والمورد: لأن أخطر معارك الوطن ليست تلك التي تُخاض بالسلاح، بل التي تُخاض داخل الوعي.

* باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى