
أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. الاستلاب الداخلي… من سقوط الوعي إلى اغتيال العقل
| من سلسلة الجسر والمورد
في السودان، لا تبدأ الحكاية من الرصاص… بل من الهمس.
لكن الذين أرادوا امتحان هذا البلد وزّعوا ورقة واحدة، سؤالًا واحدًا، كأنهم يمتحنون شعبًا لا وطنًا:
“من أطلق الرصاصة الأولى؟”
سؤالٌ ظاهره البراءة… وباطنه إخفاء الحقيقة.
فبينما كان الناس ينشغلون بهذا السؤال المسموم،
كانت الأزقة تمتلئ بهمسٍ آخر أشد قسوة:
“اهرب… بيتك بتعوض. المهم تتخارج.”
“الناس ديل حيقتلوك… حيقتحموا… حيعملوا فيك وفي أهلك.”
“أمرُق بس… كله بتعوض.”
وهكذا انقسم الناس بين نازح ولاجئ،
بين من حمل الخوف على ظهره، ومن حمل الفقد في قلبه…
لكن الخراب الحقيقي لم يبدأ هنا.
فالخرطوم، مدني، سنار ، دارفور الكبرى…
لم تسقط في ١٥ أبريل ٢٠٢٣م كما يظن البعض،
بل سقطت قبل ذلك بكثير،
حين ردد الحشد – ببراءة قاتلة – جملة واحدة:
“معليش… ما عندنا جيش.”
سقطت حين أُغلقت الشوارع بالمتاريس،
ولم يفطن أحد أن ذلك كان اختبارًا مبكرًا لمدى استعداد الشارع
للتخلي عن حماية الدولة نفسها.
كانت المتاريس تُشاد تحت شعارات براقة:
“الترس دا ما بتشال… الترس دا وراه رجال.”
لكن ما لم يُفهم يومها
هو أن صوت عبوات الغاز المسيل للدموع
كان تدريبًا أوليًا لأذنٍ ستعتاد لاحقًا سماع
الدوشكا، والثنائي، وال ٢٣.
هذه الشواهد ليست مجرد وقائع…
بل دليل عملي تقدمه أصل القضية لإثبات أن فرضية الاستلاب الداخلي
لم تكن انفعالًا تلقائيًا،
بل عملية هندسة نفسية دقيقة،
أُديرت باحترافية للوصول إلى الأهداف المرجوّة،
وكان من أبرزها: التجريف الديموغرافي
الذي سنكشف ملامحه ضمن فقرات هذا المقال.
المقال السابق قلنا إن الخرطوم لم تسقط لغياب الرجال…
ولا الجزيرة لغياب السلاح…
ولا سنار لضعف الجدران…
بل لأن الوعي كان قد سقط قبلها بسنوات.
أما اليوم فنذهب إلى ما هو أعمق… إلى الجذر الفكري الذي جعل السقوط ممكنًا.
اليوم نتحدث عن الاستلاب حين يصبح “اغتيالًا للعقل”…
وعن كيف تحوّلت التبعية إلى هندسة كاملة لإعادة تشكيل الإدراك السوداني، خارجيًا وداخليًا.
أولًا: اغتيال العقل… المقصلة التي لم ننتبه لها
برهان غليون في كتابه اغتيال العقل لم يكن يكتب عن السودان، لكنه كتب عنه دون أن يعلم.
حين تحدث عن التبعية، قال إنها ليست علاقة قوة فقط…
بل هي آلية لإلغاء قدرة الشعوب على التفكير في مصالحها.
وهذا بالضبط ما حدث في السودان:
● تحوّلت النخب من التفكير في كيف نبني الدولة
إلى الانشغال بـ من يحكم الدولة.
● انشغل الوعي السوداني بـ “الوجوه” لا بالمنهج.
بـ “الأسماء” لا بالبنية.
بـ “الأفراد” لا بالمؤسسات.
وهكذا نجحت الأحزاب — دون وعي — في تكريس أخطر أشكال الاستلاب:
استلاب الانتباه.
التركيز على من… وإهمال كيف.
وما بين “من يقود؟” و“من يُقصى؟” ضاعت الدولة.
ثانيًا: لماذا صمتت الحملان؟… قراءة في السكون المبرمج
راينر موسيفيلد في كتابه لماذا تصمت الحملان؟ يشرح كيف تتحول الشعوب إلى جمهور مطواع،
ليس لأن الخوف قوي…
بل لأن البروباغندا تجعل الخوف يبدو طبيعيًا.
وعندما نسقط هذا على السودان، نفهم سؤالًا ظل يطوف في الأذهان:
لماذا تبدو الإمارات — عبر إعلامها — كأنها مطمئنة تمامًا لمسار الحرب؟
لماذا تتصرف كأن السودان أصبح إمارة تُدار من بعيد؟
الجواب ليس في الميدان… بل في الوعي.
الإمارات لم تُظهر ثقة لأنها قوية عسكريًا…
بل لأنها كانت تعرف أن ماكينة استلابها الداخلي تعمل بكفاءة:
● رسائل نفسية يومية.
● روايات مدروسة.
● صورة ثابتة تقول: “المعركة محسومة”.
● بث شعور بالعجز الجمعي.
● قولبة الوعي ليصدق أن الهزيمة قدر… وأن المقاومة عبث.
هكذا لا تصمت الحملان لأنها مقتنعة…
بل لأنها أُعيد تشكيل إدراكها لتعتقد أن الصمت نجاة.
ثالثًا: الجهل المقدّس… كيف صُنعت آلة الاستلاب الداخلي؟
في الجهل المقدس يقول أوليفييه روا إن أخطر الجهل ليس نقص المعرفة…
بل المعرفة الموجَّهة، تلك التي تُبنى لتصنع سلوكًا قبل أن تصنع فهمًا.
هذا تمامًا ما استثمرته الإمارات في السودان:
● هندسة جهل سياسي يعطي الانطباع أن الجيش هو المشكلة.
● تجريف الوعي عبر “خبراء” مرتبطين بالخارج.
● ضخ روايات جاهزة في الإعلام والمنصات.
● تصدير خطاب يحوّل المجرم إلى فاعل سياسي مشروع.
● صناعة “نبوءة الهزيمة” كحقيقة لا تُناقش.
لكن أخطر ما تم استثماره هو:
التجريف الديموغرافي
الذي لم يكن نتيجة الحرب فقط…
بل نتيجة هندسة خوف مُنظم دفعت الناس للهروب،
تمامًا كما وصفنا في “الفراغ المُوجَّه” و“الفرجة الصامتة”.
هنا يصبح الجهل المقدس واضحًا:
قوة خارجية تحرك الداخل… عبر الداخل نفسه.
تزرع الذعر… ثم تتركه ينمو ذاتيًا.
رابعًا: من الاستلاب إلى تفكيك الأمة
النموذج الإماراتي في السودان
الاستلاب لم يكن هدفه إسقاط مدينة…
بل إسقاط النسيج الذي يمنح المدينة معناها.
ولهذا بدت الإمارات وكأنها تحكم مسرحًا بلا مقاومة:
● وعي مُجهز مسبقًا ليصدق أنها الأقوى.
● جماعات مدنية مرتبطة بمنطق التبعية الثقافية.
● أدوات إعلامية تغذي “الأسئلة الخاطئة” وتخنق الأسئلة الصحيحة.
● خطاب يعيد تعريف الوطنية على مقاس الخارج.
وكما يقول غليون:
الاستلاب يبلغ ذروته عندما يصبح المستعمَر مقتنعًا بأن أفكار المستعمِر هي خلاصه.
وهذا ما أرادت الإمارات ترسيخه في الوعي السوداني:
أن البديل لها خراب…
وأن السودان لا ينهض إلا إذا سار في الظل.
وأن سيادته يمكن تأجيلها
… وأن وعيه يمكن مصادرته.
خامسًا: الجسر والمورد… حين تتحول الأزمة إلى باب للتحول الاستراتيجي
> نحن في أصل القضية لا نكتب عن الألم لنقيم فيه…بل لنستخرج منه فرص التحول.
رؤية “الجسر والمورد” تقول:
● إن الاستلاب ليس نهاية العقل… بل بداية استعادته.
● وأن الانهيار يكشف دائمًا مفاصل القوة المخبأة.
● وأن الأمة التي استطاعت أن تسقط… تستطيع أن تقوم.
● وأن كل أزمة كبرى هي لحظة اختبار لوحدة الرواية الوطنية.
والسؤال الحقيقي ليس:
> ماذا فعلت الإمارات؟
بل:
> كيف سمح العقل السوداني بأن يُستباح؟
وعندما نجيب على هذا السؤال… نبدأ أول لبنة في إعادة بناء وعي جديد.
سادسًا: نحو رواية وطنية لا تُستلب
السودان لا يحتاج إلى خطاب أشد… ولا إلى شعارات أعلى…
يحتاج إلى:
تفكيك بنية الاستلاب
— سياسيًا
— اجتماعيًا
— إعلاميًا
— ثقافيًا
إعادة تعريف النخبة
على أساس الفكرة لا على أساس الولاء.
رد الوعي إلى صاحبه
بعد أن ظل سنوات يُدار بالوكالة.
بناء سردية لا يكتبها الخارج
ولا تُملى عبر المنح، ولا عبر المؤتمرات، ولا عبر غرف التحليل الممولة.
وعي يدرك أن المعركة ليست معركة المدن… بل معركة الرواية.
#أصل_القضية: وعي يقاوم… ودولة تُبعث
الاستلاب قتل الوعي… لكن لم يقتل الإرادة.
والتبعية شوهت العقل… لكنها لم تُلغِ الذاكرة.
والفراغ المُوجَّه أفرغ المدن… لكنه لم يفرغ الروح السودانية.
واليوم…
في هذا الظلام الممتد…
تولد “رواية الجسر والمورد”:
رواية تقول:
لا للاستلاب.
لا للتجريف.
لا للتبعية.
ونعم لعقل يستعيد ذاته،
ولوعي يبني دولته،
ولسودانٍ يعرف طريقه…
حتى لو ضاعت الطرق الأخرى.
هذا… ليس مقالًا.
هذا سهم آخر في معركة الوعي.
– باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية







