رأي

أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. الانتقال في السودان… بين ضرورات الانضباط وحدود المرونة

| من سلسلة الجسر والمورد

– باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية

> “الديمقراطية لا تُبنى ضد الجيوش، بل معها؛ شرط أن يتحول الانضباط العسكري إلى ضمانٍ للحرية، لا إلى قيدٍ عليها.” “نارسيس سيرا”

من مقال الأمس إلى تأمل اليوم

في المقال السابق من هذه السلسلة، “بين إصلاح الجيوش وإصلاح الدولة… قراءة في المأزق السوداني”, تناولنا كيف أن إصلاح المؤسسة العسكرية لا ينفصل عن إصلاح الدولة والمجتمع، وأن قوة الجيش لا تُقاس بعدده وعتاده فحسب، بل بقدرته على حماية المعنى الذي يحمي الحديد لا الحديد نفسه.

ذلك المقال مهّد لفكرة جوهرية مفادها أن السودان يحتاج إلى إعادة تعريف لوظيفة القوة في المجتمع، من حماية السلطة إلى بناء الدولة، ومن معادلة البندقية إلى معادلة البناء.

واليوم نواصل هذا النقاش من زاوية أعمق: زاوية الانتقال العسكري والمدني كما صاغها المفكر الإسباني “نارسيس سيرا”، لنقارن بين تجارب الأمم التي نجحت في دمج جيوشها داخل النظام الديمقراطي، وتجربة السودان التي ما زالت تبحث عن طريقها وسط ركام الثورات والحروب والآمال المتجددة.

أولا : من نظرية “الانتقال العسكري” إلى الواقع السوداني

يؤكد “نارسيس سيرا” أن الانتقال الديمقراطي لا يتحقق عبر إقصاء الجيوش، بل عبر إصلاحها ودمجها داخل بنية الدولة الحديثة.

فالجيش في الدولة الديمقراطية ليس خصما للمدنيين، بل ضامن لاستقرارهم، شرط أن تُعاد صياغة العلاقة معه على أساس الدستور لا على أساس الولاء أو الخوف.

ويقترح “سيرا” ثلاثة مسارات متوازية للإصلاح:

١. إصلاح بنيوي ينظم الصلاحيات بين القيادة السياسية والعسكرية.

٢. إصلاح مؤسسي يعزز الشفافية والمساءلة داخل الجيش.

٣. إصلاح ثقافي يُعيد تعريف العقيدة العسكرية كعقيدة حماية للدستور لا حيازة للسلطة.

لكن هنا يبرز السؤال المفصلي:

> هل يمكن تطبيق هذه النماذج على واقع السودان بكل تعقيداته السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟

وفقا لرؤية الجسر والمورد، فإن الإجابة لا يمكن أن تكون نعم أو لا ببساطة، لأن السودان لا يحتاج إلى استنساخ نموذج إصلاح، بل إلى صياغة نموذج سوداني خالص يستند إلى:

● البيئة الاجتماعية الأصيلة التي ترى في الجيش رمزًا للهوية الوطنية لا مجرد مؤسسة نظامية.

●البيئة الاقتصادية الهشّة التي تجعل من تماسك المؤسسة العسكرية ضمانًا للاستقرار المالي والاستثماري.

● البيئة السياسية المتقلبة التي تحتاج إلى جيشٍ وطنيٍّ متجردٍ من الولاءات الفئوية والحزبية.

ثانيا: من الثورة إلى الحرب – الانتقال السوداني في ثلاث محطات

منذ ٢٠١٨م وحتى اليوم، عاش السودان ثلاث محطات كاشفة:

١. مرحلة الثورة والحلم (٢٠١٨م –٢٠٢١م)

حين تعالت الشعارات المدنية فوق صوت الانضباط، فتحولت الإدارة إلى فوضى تنظيرية بلا مؤسسات راسخة.

٢. مرحلة الانقسام والضباب (٢٠٢١م–٢٠٢٣م)

حين عاد العسكري إلى المشهد ليملأ فراغ النظام المفقود، لكن بلا مشروع وطني جامع، فانشطر الوطن إلى مسارين متوازيين لا يلتقيان.

٣. مرحلة الحرب والتعرية (٢٠٢٣م –٢٠٢٥م)

●حين كشفت الأزمة عن عمق المأزق: أن المشكلة ليست في من يحكم، بل في كيف نحكم.

●أن الأزمة ليست في السلطة، بل في غياب الرؤية التي تدمج الانضباط بالمرونة، والقوة بالعقل.

ثالثا: رؤية الجسر والمورد – من الثنائية إلى التكامل

تقدّم رؤية الجسر والمورد منظورًا جديدًا للانتقال الوطني:

●لا تنظر إلى المدني والعسكري كضفتين متقابلتين، بل كجسرٍ واحدٍ يمتد بين الانضباط والمرونة، بين الواجب والإبداع.

●العسكري هو من يحرس الفكرة، والمدني هو من يفعّلها، وكلاهما حين يعمل بمعزل عن الآخر تتحول الدولة إلى فراغٍ يتنازع فيه الجميع.

■في هذه الرؤية:

●لا يُطلب من الجيش أن يترك الدولة، بل أن يحميها وفق صلاحيات محددة.

●ولا يُطلب من المدني أن يستبد بالقرار، بل أن يمارسه بانضباط ومسؤولية.

> “المدنية” بلا نظام تتحول إلى فوضى، و”العسكرية” بلا رؤية تتحول إلى قيد.

ولهذا تدعو استراتيجية الجسر والمورد إلى:

١. إصلاح الخدمة المدنية بروح الانضباط المؤسسي.

٢. إدخال المناهج التكاملية التي تدمج التعليم الإداري بالعسكري.

٣. إنشاء مجلس وطني أعلى للتنسيق الاستراتيجي، يجمع العقول من الطرفين في ملفات الأمن والاقتصاد والاستثمار.

رابعا: الجيش المنتج… من معادلة القوة إلى معادلة التنمية

تؤمن رؤية الجسر والمورد بأن الطريق إلى جيش وطني مستدام يمر عبر دمج الإنتاج بالدفاع، بحيث يصبح الجندي حامي الأرض وبانيها في آنٍ واحد.

فالجيش المنتج لا يكتفي بالدفاع عن الوطن، بل يشارك في إعمار ما دافع عنه، ويحوّل مفهوم الأمن من عبء على الدولة إلى قوة مولّدة للتنمية.

وهكذا، يصبح الإصلاح العسكري في السودان ليس غاية في ذاته، بل خطوة نحو دولةٍ تتوازن فيها القوة بالعقل، والسيادة بالإنتاج، والولاء بالوعي.

من “إصلاح الجيوش وإصلاح الدولة” إلى “الانتقال العسكري والمدني”, تتبلور ملامح طريق واحد نحو المستقبل:

أن تتحول الصراعات التاريخية إلى رؤية مؤسسية متكاملة تُعيد للدولة توازنها وللأمة هيبتها.

#أصل_القضية: من معادلة القوة إلى معادلة الوعي الوطني

يبقى الحل ليس في أن يكون الحكم عسكريا أو مدنيا،

بل أن يكون منضبطا، واضح الصلاحيات، خاضعًا للمساءلة.

فالعسكري بلا مدني يصبح قيدًا، والمدني بلا عسكري يصبح فوضى،

والحل في “الجسر” الذي يربط الانضباط بالمرونة،

وفي “المورد” الذي يحوّل العلاقة من صراع إلى طاقة بناء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى