
أصل القضية.. محمد أحمد أبوبكر.. البطالة أرقام والعطالة أمة: من يوقف نزيف التثبيط
> “قد تعطل آلة الإنتاج يومًا، لكن الأخطر أن يتعطل العقل والإرادة، فيموت المجتمع حيًّا.”
في المعجم الاقتصادي، البطالة هي توقف الفرد عن العمل رغم قدرته عليه. معادلة معروفة تُقاس بالأرقام ونسب السياسات. قد ترتفع حين تُخطئ الحكومات، وقد تنخفض إذا صلحت التدابير.
لكن في المعجم الاجتماعي–النفسي، ثمة مصطلح أعمق وأدهى: العطالة. وهي ليست قهرية بل اختيارية؛ تعطيل للعقل عن التفكير، وللإبداع عن التدفق، وللمجتمع عن الحركة. هي حين يختار الفرد أن يجمّد إمكاناته، أو يختار الحشد أن يكتفي بالتطبيل والتثبيط، أو يختار المسؤول أن يقرّب “فلان وفلان” خشية خبثهم ومكرهم. عندها تتحول الموهبة إلى صمت، والإرادة إلى خوف، والمشاريع الوطنية إلى أوراق مؤجلة.
والسودان اليوم ليس غريبًا عن هذه الجدلية. فالبلد الذي يقاتل فيه الجيش والقوات المساندة ويقدّم الشهداء، لا يجد في الشارع الشعبي سوى صمت ثقيل. كل الأسئلة محصورة في: الموية جات؟ الكهرباء جات؟ البلد أمان؟ المدارس فتحت؟ بينما تُقصف الفاشر وتُدمَّر المساجد ويجوع أهلها. غاب الحديث عن النصر، وغاب الشغف الوطني، وحضر الاكتفاء بانتظار الفرج.
هنا يتبدّى السؤال: هل العلة في البطالة الاقتصادية؟ أم أننا استحلينا العطالة الاجتماعية وقلة الشغلة؟
في البطالة قد يُجبر الفرد على التوقف عن الإنتاج. لكن في العطالة يتلذذ المجتمع بالصمت، ويستسهل التثبيط، حتى بات الكل سمسارًا لا منتجًا، مطبّلًا لا مبادرًا. فهرب المنتج من إنتاجه، والمفكر من إبداعه، وصار الحشد يقتات على جمع الأخطاء أكثر مما يحتفي بالإنجازات.
إنها أزمة مجتمع صامت، مجتمع يقتل الهمة قبل أن تولد. والنتيجة أن البطالة تتحول إلى أرقام قاتلة، والعطالة إلى ضياع أمة.
لكن في الحلول الاستراتيجية – وفق رؤية الجسر والمورد – فإن هذا الخلل يمكن قلبه إلى مورد قوة. كيف؟
●بإعادة تعريف الفرد لا كرقم مستهلك لخدمات الكهرباء والماء والعلاج ، بل كفاعل في معركة بناء الدولة.
●بخلق بيئة تشجع الإنتاج على حساب السمسرة، والإبداع على حساب التثبيط.
●بتفكيك ثقافة الخوف وإحياء ثقافة الشغف.
وبالتأكيد على أن النصر لا يُقاس بالضروريات اليومية وحدها، بل بالقدرة على تحويل الدماء التي سالت إلى مشروع وطني ينهض من تحت الركام.
إن أخطر صور البطالة ليست في السوق، بل في العقول. وأشد أشكال العطالة ليست في توقف العمل، بل في استمراء الصمت. والسودان اليوم أحوج ما يكون إلى قطيعة مع ثقافة التعطيل، وإلى ثورة في الوعي قبل ثورة في الاقتصاد.
فإما أن نكون مجتمعًا منتجًا مبدعًا مؤمنًا برسالته، وإما أن نظل أسرى البطالة والعطالة معًا… حيث لا يُنتظر إلا المزيد من الخراب.
سؤال #أصل_القضية: هل نحن في السودان نعاني من بطالةٍ فرضتها الظروف والسياسات، أم من عطالةٍ استمرأناها بأنفسنا فقتلنا بها الإبداع والهمة؟ وأيهما أخطر على مستقبل وطنٍ يبحث عن طريقه؟
-باحث بمركز الخبراء للدراسات