رأي

أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. التعليم في السودان… من الحق الدستوري إلى الاستثمار الجبان

| من سلسلة الجسر والمورد

منذ أن رفع السودانيون راية الاستقلال عام ١٩٥٦م، ظل التعليم حاضرًا كأحد أعمدة بناء الدولة الوطنية. الدستور يكفله كحق أصيل، والدولة تضعه على رأس أولوياتها نظريًا، والمجتمع يتمسك به كوسيلة وحيدة لتغيير الواقع وصناعة المستقبل. لكن حين ننظر اليوم إلى واقع التعليم في السودان، نجد أنفسنا أمام مشهد مأزوم، تتجاذبه ثلاثة أبعاد متناقضة:

التعليم كحق دستوري لم تستطع الدولة الوفاء به.

التعليم كخدمة عامة تنهكها الأزمات الاقتصادية والإدارية.

التعليم كاستثمار خاص حمل في داخله “جبنًا” أكثر مما حمل من شجاعة.

جذور الأزمة: من أين بدأ الانحدار؟

غياب الرؤية الإستراتيجية: لم يُبن التعليم على خطة وطنية طويلة المدى مرتبطة بمشروع الدولة، بل ظل رهينًا للظروف والأنظمة المتعاقبة.

●ضعف التمويل: الميزانية المخصصة للتعليم في السودان من بين الأدنى عالميًا، ما انعكس على البنية التحتية، مرتبات المعلمين، وتطوير المناهج.

●المناهج المأزومة: تذبذب المناهج بين الحشو النظري والارتجال السياسي جعل الطالب فريسة للحفظ دون فهم، والمعلم أداة ناقلة أكثر من كونه موجهًا.

●التوسع الكمي على حساب الكيفي: انتشار الجامعات والمدارس الخاصة دون ضوابط صارمـة أنتج تضخمًا في الشهادات مقابل تراجع في الجودة.

●خصخصة غير رشيدة: القطاع الخاص لم يدخل ميدان التعليم بدافع الإبداع أو المغامرة، بل بدافع الاستفادة من حاجة الناس الماسة، وهو ما أسميه استثمارًا جبانًا؛ لأنه لم يبنِ قيمة مضافة بقدر ما استنزف جيوب الأسر.

●الحروب والنزاعات: ملايين الأطفال خارج المدارس، ومئات المدارس مهدمة أو محتلة، ليصبح التعليم أول ضحية للصراع وآخر من يُلتفت إليه.

التعليم كرؤية “الجسر والمورد”

لماذا نربط التعليم بهذه الرؤية؟

■لأنه المورد: المورد البشري هو أثمن ما تملكه الأمة، وهو العنصر الذي يحول الموارد الطبيعية الخام إلى ثروة حقيقية.

■ولأنه الجسر: التعليم هو الجسر الذي يربط السودان بالعالم، ويحوّله من بلد مستهلك للمعرفة إلى بلد مساهم في إنتاجها.

فحين نُعيد الاعتبار للتعليم، فإننا نؤسس لجسر من العقول والمهارات يربط الأجيال القادمة بآفاق التنمية، ونحوّل المورد البشري من عبء اقتصادي إلى قوة إنتاجية قادرة على النهوض بالوطن.

التعليم في زمن الحرب: بين الرمزية والخذلان

الحرب ليست مبررًا لقتل المستقبل. فبينما توقفت المدارس في كثير من الولايات، ظل الطلاب وأسرهم يبحثون عن بصيص أمل. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة:

ألم يكن في مقدور ولاية الخرطوم – ولو من باب الانتصار للقيمة والرمزية والإنسان – أن تبادر بإقامة امتحانات المتوسطة للعالقين فيها، لتؤكد أن التعليم يظل أولوية حتى في أحلك الظروف؟

إن مجرد فعل رمزي كهذا كان سيعطي رسالة بأن الدولة تؤمن بالتعليم كأولوية وطنية. لكنه غاب او تم تغييبه، فغابت معه الثقة في المؤسسات ، مايرسخ في نفوس الأسر أن التعليم لم يعد على رأس جدول الدولة.

■الحلول المقترحة

●إصلاح تشريعي ودستوري: تضمين التعليم كمجال محمي في الدستور، بحيث لا تقل ميزانيته عن نسبة محددة من الناتج المحلي.

●حوكمة وتمويل مبتكر: إنشاء صندوق قومي للتعليم بتمويل من الدولة، المغتربين، والمنظمات الدولية، يدار بشفافية تامة.

●مناهج جديدة للحياة لا للحفظ: إعادة صياغة المناهج لتكون مرتبطة بالعلوم الحديثة، التفكير النقدي، والمهارات الحياتية.

●تمكين المعلم: تحسين أجور المعلمين وتدريبهم المستمر ليصبحوا قادة تغيير لا ناقلي معرفة فقط.

●شراكات ذكية مع القطاع الخاص: أن يُلزم المستثمرون في التعليم ببرامج منح دراسية وخدمات مجتمعية، مقابل الامتيازات التي يحصلون عليها.

●التعليم في زمن الحرب: توفير منصات تعليمية بديلة (رقمية، مجتمعية، متنقلة) لضمان عدم انقطاع الأطفال عن التعليم حتى في مناطق النزاع.

●ربط التعليم بالاقتصاد: تأسيس برامج تعليمية مهنية وتقنية تخدم سوق العمل، حتى لا يصبح التعليم مجرد شهادات معلقة على الجدران.

■آليات التنفيذ

●خطة عشرية وطنية: تضع أهدافًا واضحة ومؤشرات قياس للتعليم الأساسي، الثانوي، والجامعي.

●لجان مجتمعية للمتابعة: من أولياء الأمور، المعلمين، والطلاب، تراقب الأداء وتضغط على صانع القرار.

●تحفيز الابتكار: منح للبحوث التربوية والتجارب التعليمية الناجحة محليًا.

التدرج المرحلي: بدءًا من إصلاح التعليم الأساسي، ثم الثانوي، ثم الجامعي، مع أولويات واضحة.

#أصل_القضية: لماذا الآن؟

إذا كان النفط والذهب موارد قابلة للنضوب، فإن المورد البشري وحده هو المورد المتجدد. وإذا كان السودان يبحث عن جسر يعبر به نحو المستقبل، فإن التعليم هو ذلك الجسر.

فإما أن نعيد للتعليم قيمته وحقه ومكانته، أو نظل ندور في حلقة مفرغة من الأزمات، حيث يظل الجهل أكبر معول لهدم الدولة.

التعليم هو المورد… والتعليم هو الجسر

– باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى