
أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. الثابت والمتحول… حين يختبر السودان من جديد
| من سلسلة الجسر والمورد
في كتابه الشهير الثابت والمتحول، لم يكن أدونيس يبحث في الشعر وحده، بل كان ينقّب في طبقات الوعي العربي ليكشف عمّا يشبه “البنية العميقة” التي تحدد مسارات العقل الجمعي؛ ما يثبت فيه، وما يتغيّر. كان يسأل سؤالًا واحدًا في جوهره: لماذا لا يزال الماضي يقيد المستقبل في العالم العربي؟
ولو قدّر لأدونيس أن ينظر إلى السودان ما بين ٢٠١٨م ٢٠٢٥م، لوجد مختبرًا مفتوحًا للأسئلة ذاتها؛ بلدًا يقف، بكل ما فيه من اتساع، على الحافة بين ثباتٍ يتشبث بالتاريخ وتحوّلٍ ينتزع نفسه من بين أنقاض الخراب.
١) الثابت: ذلك الظل الطويل الذي لا يزول بسهولة ، منذ ديسمبر ٢٠١٨م، بدا المشهد وكأن السودان يحاول – للمرة الأولى منذ عقود – أن يهزّ جذور “الثابت” في حياته السياسية: البنية المركزية، السلطة المتوارثة، الطقوس السياسية العتيقة، والوعي الجمعي الموزّع بين الخوف والأمل.
لكن الثابت كان أعمق مما ظنّ الجميع.
ظهر في:
● إعادة تدوير ذات النخب القديمة بأقنعة جديدة.
●الولاءات القبلية والمناطقية التي تصعد كلما اقتربت البلاد من لحظة تأسيس جديدة.
●الاقتصاد الريعي الذي يرفض أن يتحول إلى اقتصاد إنتاج.
●صراع القوى المسلحة الذي يعيد مركزية السلاح فوق مركزية الدولة.
الثابت في السودان لم يكن مجرد الماضي…
كان نظامًا شاملاً من الأفكار والعلاقات والمصالح، يملك قُدرة خارقة على إعادة إنتاج نفسه، مهما تغيرت الشعارات.
٢) المتحوّل: ذلك الوميض الذي يكشف الطريق
مع هذا الثقل، ظل المتحول يتشكل… بصعوبة، لكنه يتشكّل.
ظهر المتحول في:
●وعي شبابي جديد لا يعادي التاريخ لكنه لا يستسلم له.
●إرادة شعبية تريد دولة، لا سلطة. مؤسسات، لا أشخاص.
●تحول المجتمع من مستهلك للأحداث إلى صانع لها.
●صعود سؤال الهوية الوطنية على حساب الهويات الضيّقة.
●مفهوم جديد للقوة: قوة العقل والمعرفة والتنظيم، لا قوة السلاح.
من ٢٠١٨م إلى ٢٠٢٣م، بدا وكأن “المتحول” يربح ببطء.
حتى جاءت الحرب – حرب أبريل – لتختبر كل شيء.
حرب كشفت هشاشة الثابت، وقوة المتحول معًا.
٣) حرب أبريل… المحكّ الأعظم لمفهوم الثابت والمتحول
الحرب لم تُعد تشكيل الخرائط فقط، بل أعادت تشكيل طرق التفكير، منطق الدولة، طبيعة الصراع، معنى الوجود ذاته.
●في الحرب: الثابت ظهر في ممارسة العنف بلا سقف، وانهيار الدولة كمفهوم إداري وسياسي.
●لكن المتحول تجلّى في قوة المجتمع حين انهار المركز.
●في التعبئة العامة، المقاومة الشعبية، والتماسك الاجتماعي رغم ضعف الإمكانات .
●في ظهور وعي بديل يرى أن مستقبل السودان لا يمكن أن يُكتب بنفس أدوات الماضي.
وهنا يتدخل “أدونيس” بأعمق طرح له:
> المجتمع الذي لا يبتكر أدوات جديدة للتغيير… يعيد إنتاج ذاته مهما تغيّرت أشكاله.
وهذا بالضبط ما حدث للسودان في لحظة ما بعد الحرب:
> إما أن يبدع أدوات جديدة
> أو يبقى أسيرًا للثابت.
٤) من رؤية الجسر والمورد… نحو هندسة جديدة للتحول
●رؤية الجسر والمورد لا تعادي الثابت ولا تمجد المتحول.
●هي تقترح شيئًا ثالثًا:
إعادة هندسة العلاقة بينهما.
●فالثابت في السودان : الإسلام، اللغة الجغرافيا، التنوع، الموارد، التاريخ الحضاري – وهذا ليس عائقًا.
●والمتحول : الوعي الجديد، الطاقة الشبابية، لحظة الانكشاف التاريخي – وهذا ليس كافيًا وحده.
●الجسر والمورد تقول:
> “اصنع جسرًا بين الثابت والمتحول؛ لا تلغِ القديم… ولا تقدّس الجديد.
> فقط أعِد ترتيب المعادلة للوصول لمجموعة الحل.
وهذا الجسر يحتاج إلى:
●إطار وطني جامع يعيد تعريف الدولة لا السلطة.
●اقتصاد موارد لا اقتصاد ولاءات.
●إعادة بناء العقد الاجتماعي على أساس الحق والواجب، لا الرغبة والقهر.
●انتقال واعٍ من ثقافة الأزمة إلى ثقافة التخطيط.
٥) مستقبل السودان بين الثابت والمتحول… درس ٢٠٢٥م
حيث نصل إلى اللحظة الحاسمة:
ماذا تعلّم الشعب السوداني من ٢٠١٨م إلى ٢٠٢٥م؟
●تعلّم أن الثابت إذا لم يُعاد تفسيره… يتحول إلى قيد.
●وتعلّم أن المتحول إذا لم يترسخ… يصبح مجرد شرارة جميلة تنطفئ.
السنوات السبع الماضية ليست مجرد أحداث، بل هي – كما يقول أدونيس-
> “نص مفتوح”يُطلب منا أن نكمله، لا أن نتفرج عليه.
اليوم، السودان يقف أمام خيارين:
●إما أن يجعل ٢٠٢٥م بداية لحظة التأسيس الجديدة
●أو يجعلها استمرارًا لحكاية الانهيار الطويلة.
■ والفرق بينهما…
●ليس سياسيًا.
●ولا عسكريًا.
●ولا اقتصاديًا فقط.
■الفرق الحقيقي هو:
> هل نملك الشجاعة لخلق متحولٍ قادر على كسر الثابت؟
> أم نظل ندور في فلك السؤال القديم الذي طرحه أدونيس قبل خمسين عامًا؟
#أصل_القضية،،،
لن يكون السودان كما كان.
هذا ليس تفاؤلًا… بل قانون التاريخ.
لكن ما سيكون عليه السودان – بعد هذه السنوات العاصفة – يتوقف على شيء واحد:
كيف نفهم علاقتنا بالثابت والمتحول؟
إذا أحسنا تعريف الثابت…
وأحسنا ترسيخ المتحول…
سنصنع الجسر.
وسنُحسن إدارة المورد.
وسنكتب مستقبلًا لا يشبه الماضي إلا بقدر ما يشبه الجذور قوة الشجرة، لا قيدها.
هذا هو #أصل_القضية .
*باحث في العلاقات الدولية – مركز الخبراء للدراسات الإنمائية







