
أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر… الدولة الوظيفية من الداخل: حين يصنع الشعب قيوده (١-٢)
الدولة الوظيفية ليست جدرانًا من خرسانة ولا مكاتب بيروقراطية باردة، وليست مؤامرة تصاغ في غرف مظلمة بعواصم بعيدة. إنها تبدأ من لحظة ضعف في الداخل، من لحظة غياب الوعي حين يتحوّل الشعب نفسه إلى جسرٍ يُستعمل للوصول إلى المورد، بدل أن يكون هو الجسر الذي يحمي المورد ويحوّله إلى مشروع وطني جامع.
وفي السودان، تتجسد هذه الحقيقة بمرارة. بلدٌ يفيض بالذهب والبترول والنيل والأرض الخصبة، لكنه يعيش على المساعدات ويرهن قراره للغير. لأن الجسر البشري، أي الشعب، تراجع خطوة وراء خطوة، حتى صار المورد متاحًا بلا حماية، والدولة مجرد أداة تؤدي وظيفة للآخرين.
المحور الأول: حرب الجنرالين… صناعة الفوج الأول من النزوح
حين اندلعت حرب أبريل ٢٠٢٣م، صُوِّرت في المشهد الأول على أنها حرب بين “جنرالين” وصراع على السلطة بين الجيش والدعم السريع. بدا الأمر كمعركة فوقية لا شأن للمواطن البسيط بها.
لكن ما إن اشتعلت النيران، حتى أُريد للشعب أن يصدّق أن السودان كله في طريقه إلى التفكك والانهيار. هنا بدأ الفوج الأول من النزوح: مواطنون فقدوا الثقة، حملوا ما تيسر من متاع، وغادروا بيوتهم بحثًا عن أمانٍ مفقود.
لم يكن النزوح فقط هروبًا من القذائف، بل استسلامًا لفكرة أن هذا البلد لم يعد قابلًا للحياة. كان ذلك هو الفصل الأول في خطة سلخ المواطن من جذوره: إخراجه من أرضه ليبقى المورد مكشوفًا بلا جسر.
المحور الثاني: الحرب العبثية… صناعة الفوج الثاني
ثم تبدلت النغمة: لم يعد الإعلام يصفها بحرب الجنرالين، بل صارت حربًا “عبثية”، بلا نهاية، بلا أفق.
وفي حين انشغلت قوات الدعم السريع بالنهب والسطو على الممتلكات، تكفلت الدعاية بزرع الوهم بأن هذه حرب لن تتوقف أبدًا.
هنا تلاشت بقايا الأمل، وبدأ الفوج الثاني من النزوح واللجوء:
●أسرٌ اقتلعت من جذورها مرة أخرى، بعضها انتهى به المطاف خارج الحدود.
●شباب فقدوا الجامعات والأحلام.
●شيوخ كانوا أعمدة الحارات، صاروا أعمدة الخيام.
لم يكن الهروب من الرصاص وحده، بل من شعور داخلي بأن السودان انتهى. وهكذا تواصل تفريغ الأرض من شعبها، وتحويل المواطن من حامٍ للجسر والمورد إلى مجرد عابر يبحث عن مأوى.
المحور الثالث: تصفية الوعي… حين صار العقل هدفًا
لم يكتمل المخطط عند حدود النزوح، بل كان هناك هدف أخطر: كسر كل جسر يعيد الناس إلى وعيهم.
فحين علت أصوات تقول: هذه ليست حربًا عبثية، إنها حرب عليكم أنتم… فاثبتوا!، جرى استهدافها مباشرة:
■اغتيالات غامضة.
■اختفاءات مريبة.
حملات تخوين وتشويه ممنهج.
صار الصوت العاقل أثقل من الرصاصة، والوعي هدفًا ثمينًا للتصفية.
وفي المقابل، نفّذت قوات الدعم السريع خطتها بانتشار أوسع، ونشر الفوضى والهرج، حتى لا يبقى في السودان إلا هي ومن يواليها.
أما من نسج الخطة، فلم يكن الجندي البسيط في الميدان. ذاك لم يعرف سوى النهب والسلب. بل كان هناك جسر آخر، خفي، يربط الداخل بالخارج: الطابور الخامس.
المحور الرابع: الطابور الخامس… الجسر الخائن بين الداخل والخارج
الطابور الخامس لم يكن مقاتلًا يطلق النار، بل كان عقلًا يزرع اليأس.
●قلّل من شأن كل انتصار.
●ضخّم كل هزيمة.
●روّج صورة جيشٍ ضعيف مقابل دعم سريع متماسك.
ومع مسرحية “غرف الطوارئ”، ظهر بوجه مدني، لكنه ظل يعمل كذراع دعاية تُسوّق الفوضى وتجرّم أي محاولة للتماسك.
وأخطر من ذلك، أن هؤلاء لم يرسموا فقط سيناريو الخروج، بل يعزفون اليوم على أوتار عدم العودة.
■من عاد من النزوح أو اللجوء وجد نفسه في مواجهة عراقيل وضغوط مقصودة، حتى يُدفع للندم على عودته.
■صار من يعود غريبًا في وطنه، محاصرًا بالتطفيش والتضييق.
وهنا يطرح السؤال: هل نحن على أعتاب موجة نزوح جديدة؟
فالطابور الخامس لا يتوقف عن الاجتهاد:
●تعقيد الحصول على الخدمات ليزرع اليأس.
●تضخيم الغلاء ليؤجج الغضب.
●إعلام يكرس صورة الانهيار والتفكك.
كل ذلك لضمان أن يبقى المواطن بلا وعي، والجسر بلا قوة، والوطن بلا حماية.
أصل القضية،،،
ما جرى حتى الآن ليس سوى المشهد الأول من مسرحية طويلة لم يُسدل ستارها بعد.
لقد رأينا كيف نُزع المواطن من أرضه، وكيف صُفِّي وعيه، وكيف تمدّد الطابور الخامس كجسرٍ خائن يربط الداخل بالخارج.
لكن هذه ليست النهاية .
فهناك دائمًا سؤال معلّق لم يُجب بعد:
ماذا لو استعاد الجسر وعيه، وأمسك بزمام المورد بيده؟
ماذا لو اكتشف محمد أحمد أن الخطة لم تُكتب لتكون قدرًا، بل لتكون فخًا يمكن كسره؟
الجزء الثاني سيأخذنا إلى قلب هذه الأسئلة:
كيف يُدار المورد حين يُترك بلا حارس؟
من يستفيد من هذا التفريغ المقصود؟
وأين تكمن اللحظة الفاصلة التي يمكن أن تقلب المعادلة رأسًا على عقب؟
إنها ليست دعوة للأمل الساذج، بل دعوة للبصيرة الحادة…
فالطريق لا يزال مفتوحًا بين الجسر والمورد، والخيار بين أن نظل أدوات في دولة وظيفية، أو أن نصبح أصحاب دولة حقيقية.
– باحث بمركز الخبراء للدراسات