رأي

أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. السلطة التقديرية في السودان: جسرٌ للعدالة أم منحدرٌ للفساد؟

| من سلسلة الجسر والمورد

باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية

> “حين تغيب الرؤية ويُختزل القانون في نصوص جامدة، تتحول السلطة التقديرية من أداة عدلٍ إلى مطيةٍ للهوى.”

في دول مثل السودان، حيث تتقاطع الأزمات الإدارية مع ضعف المؤسسات وغياب المساءلة، تصبح السلطة التقديرية — التي يفترض أن تكون وسيلة لتمكين المسؤول من اتخاذ القرار العادل في غياب النص الصريح — سلاحًا ذا حدين: فإما أن تُستخدم كجسرٍ نحو العدالة المرنة التي تراعي روح القانون ومصلحة المواطن، أو تُحوَّل إلى منحدرٍ سحيقٍ يجرّ الدولة نحو الفساد المستتر خلف أقنعة الشرعية.

أولاً: أصل الإشكالية – من القانون إلى الذهنية

السلطة التقديرية ليست في ذاتها عيبًا إداريًا، بل هي مساحة ثقة يمنحها القانون للموظف العام ليُعمل عقله في ما لا ينص عليه التشريع صراحة.

لكنّها في السودان كثيرًا ما تُمارس في غياب ثقافة المصلحة العامة، فتصبح الأداة التي كان يُراد بها تسريع العدالة وسيلة لتعطيلها، ويصبح القرار الإداري رهين المزاج أو العلاقات أو الخوف من الخطأ الإداري.

إنّ البيروقراطية السودانية، في ظل هذا المناخ، تشبه سلحفاةً تجرّ فوق ظهرها جبلًا من الأوراق، كل خطوة فيها تستدعي توقيعًا، وكل توقيع يستدعي إذنًا، وكل إذنٍ يخضع لمزاجٍ تقديريٍّ غير منضبط بمعيار واضح.

ثانيًا: بين النص والنية – معركة العقل الإداري

الفرق بين العدالة الصورية والعدالة الحقيقية يكمن في النية التي تُمارَس بها السلطة.

فالموظف الذي يرى في القانون مظلة لخدمة الناس سيستخدم سلطته التقديرية لتيسير مصالحهم، بينما الذي يرى في القانون عصًا يخوّله السيطرة سيحوّل هذه السلطة إلى وسيلة للابتزاز أو الانتقام أو التراخي.

ولذلك فإن جوهر الإصلاح الإداري لا يبدأ بتغيير القوانين فحسب، بل بإعادة تأهيل العقل الإداري ليكون عقلًا رساليًا، يفهم أن كل قرارٍ هو لبنة في بناء الدولة أو حجر في طريق سقوطها.

ثالثًا: حين تصبح البيروقراطية حاضنة للفساد

السلطة التقديرية حين تنفصل عن المساءلة والشفافية، تتحول من مرونةٍ إلى فوضى، ومن تقديرٍ إلى تبرير.

فباسم “سلطة المدير” تُمنح الاستثناءات، وباسم “تقدير اللجنة” تُمنع الحقوق، وباسم “التوجيه الأعلى” تُعطَّل القرارات.

إنها بيروقراطية ترفع شعار الانضباط وتخفي في طيّاتها الانتهازية، بيروقراطية تقتل روح المبادرة وتخلق طبقة وسطى من الموظفين لا تعمل إلا لتنجو.

رابعًا: الجسر والمورد – نحو سلطة تقديرية منتجة

من منظور استراتيجية الجسر والمورد، لا بد من تحويل السلطة التقديرية إلى موردٍ من موارد العدالة لا منحدرٍ للفساد.

فكل سلطة في الدولة يجب أن تُقاس بقدرتها على إنتاج القيمة العامة، أي تحقيق النفع الجماعي لا المصلحة الفردية.

وتقترح الرؤية أن تُبنى السلطة التقديرية على ثلاثة أعمدة:

١. الشفافية المؤسسية: توثيق كل قرار تقديري وعلله وأثره.

٢. المساءلة الذكية: ربط كل قرار إداري بمؤشرات أداء لا بالمزاج الشخصي.

٣. التأهيل القيمي: تدريب الكادر الإداري على فهم روح القانون لا نصّه فحسب، فالقانون بلا روح هو جثةٌ شرعية.

خامسًا: منحدر الفساد… وصعود العدالة

الفساد لا يبدأ من الرشوة الكبيرة، بل من القرار الصغير الذي اتُّخذ بلا معيار.

إنه الانزلاق الهادئ نحو اللامبالاة، نحو تأجيل القرار، نحو الإغراق في الإجراءات، نحو التذرّع بأن “القانون لم يقل”.

وفي المقابل، يبدأ الإصلاح من إحياء روح المسؤولية في القرار الإداري، بحيث يتحول الموظف من “كاتب أوامر” إلى “صانع حلول”.

إن العدالة ليست في سرعة القرار فقط، بل في نقاء الدافع ووضوح المسار.

سادسًا: توصيات ختامية من منظور الحوكمة في الخدمة المدنية السودانية

إن تجاوز مأزق السلطة التقديرية في السودان لا يتحقق بالتنديد الأخلاقي أو تعديل النصوص فحسب، بل عبر حوكمةٍ عميقةٍ لروح الإدارة، تنقل القرار العام من المزاج إلى المعيار، ومن الولاء للأشخاص إلى الولاء للقيم. وفي هذا الإطار، تقترح رؤية الجسر والمورد ما يلي:

١. إعادة بناء منظومة الاختيار والتعيين:

بحيث تستند على الكفاءة والنزاهة لا على الولاء السياسي أو القبلي، لأن من يفتقر إلى ضمير المصلحة العامة لن يُحسن استخدام أي سلطة مهما صغرت.

٢. تأسيس وحدات “الرقابة التقديرية” داخل المؤسسات:

تُراجع القرارات التي تعتمد على السلطة التقديرية، وتُقوّم مدى اتساقها مع أهداف المؤسسة ومعايير العدالة الإدارية.

٣. تبنّي نظام المساءلة الإدارية الذكية:

يقوم على توثيق كل قرار تقديري عبر نظام رقمي، يربط القرار بأسبابه ونتائجه، ويتيح مراجعته في أي وقت دون إبطاءٍ أو تدخلٍ شخصي.

٤. بناء ثقافة الخدمة العامة كرسالة وطنية:

عبر تدريب القيادات والموظفين على أن الوظيفة ليست سلطة، بل أمانة تُمارس لتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية، لا لمراكمة النفوذ أو الامتيازات.

٥. إدماج قيم “الشفافية والمصلحة العامة” في الأداء اليومي:

بحيث تصبح معيارًا لتقييم الكفاءة والترقي، فالموظف الذي يستخدم سلطته التقديرية لتحقيق العدالة يستحق أن يُكافأ، لا أن يُخشى.

إنّ تطبيق هذه التوصيات يعني تحويل السلطة التقديرية من عبءٍ إداري إلى رصيدٍ تنموي، ومن بابٍ للفساد إلى معبرٍ للعدالة الإنتاجية. فالسودان في هذه المرحلة المفصلية يحتاج إلى إدارةٍ تُنير الطريق لا تُعطِّله، وإلى موظفٍ يُمارس سلطته كما يُمارس عبادةً في محراب الوطن.

> “حين تُحكم السلطة التقديرية بضميرٍ وطنيٍّ ومؤسسيةٍ رشيدة، تتحول من استثناءٍ قانوني إلى قيمةٍ حضارية تعيد الثقة بين المواطن والدولة.”

#أصل_القضية | بين الجسر والمنحدر

في نهاية المطاف، ليست السلطة التقديرية هي الخطر، بل الضمير الذي يُمارسها.

فكم من موظفٍ صغيرٍ أنقذ حياة مواطنٍ بقرارٍ شجاعٍ خارج النمط، وكم من مسؤولٍ كبيرٍ ضيّع العدالة باسم الانضباط!

إن العدالة لا تُصنع في النصوص وحدها، بل في النيات التي تسكن العقول والقلوب.

فليكن شعار المرحلة:

“السلطة التقديرية في السودان… جسرٌ نحو العدالة لا منحدرٌ نحو الفساد.”

– باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى