
أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. السودان بين الوعي المأسور والتواصل المحرِّر
| من سلسلة الجسر والمورد
> في زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات وتندر الحقيقة،يخوض السودان معركته الأخطر:
> من يملك وعي الشعب… يملك مصيره.
في عالمٍ تتنازع فيه الشعوب بين البندقية والكلمة، يعيش السودان اختبارًا غير مسبوق لوعيه الجمعي.
لم تعد معاركه تدور فقط في ميادين القتال، بل في ساحات العقول؛ حيث تُدار الحروب الناعمة عبر الشائعات، وتُعاد صياغة الذاكرة الوطنية بخيوطٍ من الخداع والتشويش.
إنه صراعٌ بين الوعي المأسور الذي تصنعه القوى المهيمنة، والتواصل المحرّر الذي يحاول الشعب السوداني أن يستعيد من خلاله صوته، وهويته، وموقعه في التاريخ.
حين يقرأ المرء لأنطونيو غرامشي في «متى تُهزم الشعوب»، يدرك أن الهزيمة لا تبدأ من الخارج، بل من اللحظة التي تفقد فيها الأمة قدرتها على إنتاج وعيها.
وعندما نقرأ مي العبدالله في «فلسفة التواصل»، نفهم أن الكلمة ليست وسيلة للتفاهم فقط، بل جسرٌ للوجود نفسه… لأن الأمم لا تنهض إلا حين تُحسن الإصغاء لذاتها.
وهكذا، يصبح السؤال السوداني اليوم أكثر جوهرية من أي وقت مضى:
●هل خسر السودان معاركه لأنه انهزم عسكريًا، أم لأنه انقطع عن ذاته؟
●هل تآكل مشروعه الوطني لأن السلاح صمت، أم لأن التواصل انكسر؟
في عمق الأزمة، يبدو السودان كمن يقف على ضفّتين متقابلتين من نهرٍ واحد:
ضفةٌ من الوعي المأسور؛ حيث تُعاد صياغة الإدراك الجمعي عبر روايات القوة والهيمنة،
وضفةٌ من التواصل المحرّر؛ حيث يحاول الشعب، بكل ما تبقّى من أمل، أن يستعيد حقه في أن يتحدث بلغته، لا بلغة الآخرين.
بين وعي الشعب وتمزيق الوعي
في زمن تتقاطع فيه البنادق مع الكاميرات، والبيانات مع العواطف، لم تعد الحرب في السودان حربًا على الأرض فحسب، بل تحوّلت إلى حرب على العقول.
فكما يقول غرامشي: “الهزيمة الحقيقية للشعوب تبدأ حين تُهزم في وعيها.”
ووفقًا لمي العبدالله، فإن أخطر ما يواجه الأمم ليس الانقسام السياسي، بل انهيار اللغة التي توحّد المعنى بين أبناء الوطن.
هكذا نجد أنفسنا أمام مشهد اتصالي مأزوم، حيث تداخلت الحقيقة بالشائعة، والبطولة بالخيبة، والمعلومة بالخداع.
لقد نجحت أدوات الاتصال المُسيَّس في تحويل الشعب من شريك في المعركة إلى متلقٍ مشوش، لا يعرف أين يقف، ولا من يقاتل من.
الشائعات أداة تفكيك واحتلال ناعم
الشائعة ليست مجرد خبر كاذب؛ إنها مشروع هندسة وعي.
في المجتمع المأزوم، تتحول الشائعة إلى محرّك اجتماعي يُعيد ترتيب الثقة والعداوة، ويُسقط الرموز الوطنية في مرمى الشك.
هكذا يُعاد تمزيق النسيج الاجتماعي عبر بثّ روايات تزرع الريبة في مؤسسات الدولة، وتُحوِّل التضحية إلى موضع اتهام، والصمود إلى مادة للسخرية.
إنها حرب تُدار بالعقل الباطن أكثر مما تُدار بالمدفع،
وبالصورة أكثر من الطلقة،
وبالهاشتاق أكثر من القرار.
تحليل البنية الاتصالية والنفسية للحرب
لم تعد الحرب السودانية مواجهة بين جيشٍ وعدوٍّ داخلي، بل تحوّلت إلى صراعٍ بين السرديات والرموز.
لقد نجحت المنصات المناوئة للدولة، وعلى رأسها صمود، في إعادة توجيه الرأي العام من خلال هندسة المفاهيم، وتغليف الفوضى بمسميات براقة كـ”الكرامة” و”المقاومة الشعبية”، لتغدو الخيانة في الوعي الموجّه بطولة، بينما يُقدَّم الدفاع الوطني على أنه انتهاك.
ويُثار هنا تساؤل جوهري:
لماذا لا يشعر الشعب بانتصارات الجيش ودحره لقوات الدعم السريع؟
ولماذا تروّج بعض المنصات لكل الأفعال والقرارات السيادية على أنها انتهاكات؟
هل لأن الخطاب الرسمي فشل في صناعة رواية وطنية جامعة؟
أم لأن إعلام الأزمة احتكر مساحة الوجدان الشعبي، واحتلّ موضع الثقة؟
أم لأن هناك هندسة نفسية متعمدة تُعيد تعريف الوطنية بمعايير تخدم مشروع التفكيك الداخلي؟
هذه البنية الاتصالية التي تقوم على التضليل الممنهج، جعلت من الشائعة سلاحًا، ومن الوعي ساحة حرب.
إنها ليست أزمة إعلام فحسب، بل أزمة ثقة، وأزمة معنى، وأزمة هوية وطنية تتعرض للتهشيم.
نحو إعلام وطني استراتيجي
إن السودان وهو يخوض معركة الكرامة، يحتاج إلى إعلام استراتيجي يُعيد بناء الجسور بين الجيش والشعب، بين الفعل والسيادة، بين النصر والحقيقة.
إعلام لا يكتفي بالرواية، بل يصنع الثقة، ويحوّل الوعي إلى طاقة بناء لا أداة تحريض.
فالمعركة القادمة ليست في الميدان، بل في المعنى.
ومن يفقد السيطرة على معناه، يفقد وطنه ولو انتصر في كل معاركه.
من هنا، تنبع رؤية الجسر والمورد:
أن نعيد وصل المعنى المقطوع، ونسترد الوعي المختطف،
ونحوّل التواصل من وسيلة للاستهلاك إلى وسيلة للتحرر.
فالأمم لا تُهزم بالرصاص، بل حين تُهزم في وعيها…
وها هو السودان، رغم الجراح، لا يزال يملك القدرة على أن يكتب وعيه من جديد.
من وعي الندم إلى وعي النهضة
لقد آن للسودان أن يغادر مرحلة وعي الندم إلى مرحلة وعي النهضة.
فالتاريخ لا يرحم الأمم التي تُكرر أخطاءها، كما لا ينتظر الذين يبررون عجزهم.
إن الطريق نحو التكامل المستدام لا يُبنى بالنيات ولا بالشعارات،
بل بتأسيس عقلٍ جمعي قادرٍ على الربط بين الذاكرة الوطنية والقرار الاستراتيجي.
إن بناء الدولة الحديثة في السودان يبدأ من تحرير اللغة السياسية من الانفعال، والخطاب الإعلامي من الاستقطاب، والعقل الجمعي من الوصاية.
حينها فقط يمكن أن تتكوّن معادلة القوة الحقيقية:
■وعيٌ ينتج القرار، وقرارٌ يترجم الوعي.
ولتحقيق ذلك، لا بد من ثلاث مرتكزات كبرى:
●تواصُل وطني صادق يعيد الاعتبار للإنسان السوداني كأصلٍ للمشروع لا كأداةٍ له.
●تحالف معرفي جديد بين المثقفين وصنّاع القرار، لتتحول الفكرة إلى سياسةٍ لا إلى شعار.
●رؤية دبلوماسية شجاعة تستند إلى الجغرافيا كقوةٍ لا كقدر، وتستثمر الموقع كجسرٍ بين إفريقيا والعالم العربي وآسيا.
إن “التكامل المستدام” ليس مشروعًا اقتصاديًا فقط، بل مشروع تحوّلٍ وعيانيٍّ يتجاوز ردّ الفعل إلى صناعة الفعل، ويحوّل الخوف من المجهول إلى ثقةٍ بالممكن.
فالسودان الذي عانى الانقسام، قادرٌ على أن يُعلّم العالم كيف يُصنع التوازن بين الجرح والأمل،
بين القوة والرحمة،
بين البقاء والتجدّد.
لا بد للشعب ان يعي أنه لن يُكتب مستقبل السودان بيد المنتصرين في الحرب،
بل بيد الذين يُدركون أن الكلمة يمكن أن تُصلح ما أفسدته المدافع،
وأن التواصل الصادق هو أعظم أدوات السيادة.
ولا بد للشعب أن يعي أن تاريخ الحروب دوما يؤرخ نهاية الحرب على الطاولة التي تترجم واقع الميدان الحقيقي وفق شروط المنتصر .
ذلك هو #أصل_القضية ،
وتلك هي رؤية الجسر والمورد…
حين يصبح الإنسان هو المنطلق،
ويصبح الوعي المورد الذي لا ينضب.
– باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية