
أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. السودان بين اللحظة الضائعة وفرصة التحول
| من سلسلة الجسر والمورد
في عالمٍ تتغير موازينه بالثواني، أصبح الزمن نفسه مورداً استراتيجياً.
فما يُتاح اليوم من فرص سياسية أو اقتصادية أو فكرية قد لا يكون متاحًا غدًا، وما يُهمل اليوم يتحول غدًا إلى عبءٍ يصعب رفعه.
تلك هي معادلة التحولات الكبرى: الأمم التي تدرك قيمة اللحظة تبني المستقبل، وتلك التي تستهين بها تخرج من التاريخ.
من هنا تنطلق رؤية الجسر والمورد، لا كفكرةٍ أكاديميةٍ فحسب، بل كمشروعٍ وطنيٍّ لفهم أن السودان يقف اليوم على حافة فاصلة بين أن يكون أو يُستنزف.
لقد أُتيح لنا – وسط نار الحرب – ما لم يُتح في زمن السلم:
انكشفت أوراق الاقتصاد، وتعرّت شبكات الفساد، وظهرت الحاجة إلى إعادة بناء الدولة على أسسٍ جديدة،
لكن الخطر أن يمرّ هذا الزمن الاستثنائي دون أن نصنع منه فرصة للعبور.
أولاً: تحديد المشكلة – ضياع اللحظة بين الارتجال والتردد
إن أخطر ما يواجه السودان اليوم ليس نقص الموارد ولا ضعف الكفاءات، بل غياب القرار في لحظة الحاجة إليه.
فبينما تُعاد صياغة خرائط القوة في المنطقة، ما زلنا نراوح مكاننا بين لجانٍ بلا صلاحيات وقراراتٍ بلا رؤية.
نملك الأرض والذهب والمياه والموقع، لكننا نفتقر إلى القدرة على التحويل — تحويل المورد إلى نفوذ، والفكرة إلى مشروع، والفرصة إلى واقع.
المشكلة أن المتاح اليوم يُستنزف بلا وعي:
موارد تُنقل بلا قيمة مضافة،
مؤسسات تُدار بعقلية ما قبل الحرب،
قرارات اقتصادية تُبنى على رد الفعل لا على التحليل،
وطاقات بشرية تُهدر في انتظار “الظروف المناسبة”.
لكن في الاستراتيجيا لا وجود لظروفٍ مثالية، بل إدارة للواقع كما هو، وتحويله إلى فرصة كما يمكن أن يكون.
ثانيًا: الحلول من منظور الجسر والمورد – من الإدارة المتأخرة إلى الإدارة المتنبّهة
رؤية الجسر والمورد لا تطرح أحلامًا، بل تدعو إلى تحويل اللحظة إلى نقطة انطلاق.
ومن هنا، يمكن تحديد أربعة مسارات عملية:
1️⃣ إدارة ما تبقى لا ما يُنتظر:
الانتظار في حد ذاته أصبح ترفًا سياسيًا واقتصاديًا لا يملكه السودان.
علينا إدارة ما هو قائم من موارد بشرية وطبيعية ومؤسساتية بأقصى كفاءة، لا انتظار المانحين أو الاستقرار السياسي الكامل.
2️⃣ توطين القرار الاقتصادي:
كل تأخير في صناعة القرار هو تفويض غير مباشر لقوى خارجية لتحديد مصيرنا.
الحل في امتلاك أدوات السيادة الاقتصادية: من العملة الرقمية (نيلوكوين) إلى إدارة الذهب والموارد عبر منصات وطنية شفافة، لا عبر وسطاء أو اتفاقات آنية.
3️⃣ إعادة تعريف السلطة:
السلطة في زمن الأزمات ليست سلطة إصدار الأوامر، بل سلطة المبادرة والمسؤولية.
ولهذا فإن إصلاح “السلطة التقديرية” يصبح حجر الأساس في بناء مؤسساتٍ لا تقتل القرار، بل تحفزه، ولا تكمم الكفاءة، بل تطلقها.
4️⃣ تحويل الوعي إلى سياسة عامة:
كل فكرة لا تتحول إلى سياسة تموت في الأدراج.
ولهذا تدعو الرؤية إلى تحويل “وعي الجسر والمورد” إلى مشروع دولة متكامل يقوم على:
الاقتصاد الرقمي،
الإدارة الرشيدة،
والتعليم الموجه نحو التنمية،
والدبلوماسية الاقتصادية كأداة سيادة لا تبعية.
ثالثًا: ما بعد الفرصة – إذا لم نصنعها صنعها غيرنا
في اللحظة التي نتردد فيها، تتحرك الأمم الأخرى لاحتلال مساحة الغياب.
تركيا بدأت من منجمٍ تحت الأرض لتصعد إلى قمة التكنولوجيا،
بينما السودان – الذي يملك معادن الأرض وموقع السماء – لا يزال عالقًا في بيروقراطية الورق ومزاج التقدير.
إنّ التاريخ لا ينتظر المتأخرين، والأسواق لا تحترم المترددين، والعالم لا يتعامل إلا مع من يملك رؤية وموقفًا ومشروعًا.
وما هو متاح اليوم — من فرصة لإعادة بناء السودان وفق رؤية رقمية واقتصادية جديدة — لن يكون متاحًا غدًا، لأن الآخرين يسابقون الوقت ونحن نحاسب النيات.
رابعًا: توصيات استراتيجية لصانعي القرار
1️⃣ إعلان خطة طوارئ اقتصادية رقمية تستند إلى مبادرة نيلوكوين وتربط العملة بالإنتاج الحقيقي.
2️⃣ حوكمة السلطة التقديرية بإدخال الرقمنة والمساءلة الذكية في كل قرار إداري.
3️⃣ إنشاء مجلس وطني للفرص الاستراتيجية، مهمته التقاط ما هو متاح اليوم قبل أن يفوت الغد.
4️⃣ تحويل الأزمة الحالية إلى مختبرٍ وطني للإصلاح، بحيث تكون كل وزارة مطالبة بإنتاج مبادرة واحدة قابلة للتنفيذ خلال عام.
5️⃣ إطلاق منصة وطنية “للجسر والمورد” كمركز تفكير وسياسات عامة، يربط الأكاديميا بصانع القرار، والفكرة بالفعل.
#أصل_القضية | الرسالة الأخيرة
ما هو متاح اليوم — من عقولٍ تفكر ومواردَ تنتظر — لن نجده غدًا إن بقينا نؤجل ونرتجل.
فالتاريخ لا يرحم المتفرجين، والسودان لا يحتمل مزيدًا من الانتظار.
لقد كتبنا بالأمس عن “نيلوكوين” كجسرٍ نحو السيادة، وكتبنا عن “السلطة التقديرية” كمنحدرٍ نحو الفساد،
واليوم نكتب عن الزمن نفسه كموردٍ قابلٍ للنضوب.
فيا صانع القرار،
إن لم تُدِر اللحظة، ستديرك اللحظة.
وما لم نحسن اقتناص الفرصة، سيكتب الآخرون مستقبلنا كما كتبوا تاريخنا.
“إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم.
– باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية