رأي

أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. السودان : من صناعة الخبر إلى بناء الوعي الوطني

| من سلسلة الجسر والمورد

في عالمٍ تتبدل فيه الحقائق بسرعة الضوء، لم يعد الخبر هو ما يحدث، بل ما يُراد له أن يُرى.

بهذه الفلسفة يفتتح ماكس ماكومز ورفاقه كتابهم الشهير «الأخبار والرأي العام: تأثير الإعلام على الحياة المدنية»، ليؤكدوا أن الإعلام ليس مجرد ناقلٍ للوقائع، بل صانعٌ للأولويات، ومهندسٌ للوعي.

منذ السبعينيات، قدّمت نظرية “ترتيب الأولويات” (Agenda Setting) واحدة من أكثر المفاهيم تأثيرًا في فهم العلاقة بين الإعلام والرأي العام:

وسائل الإعلام لا تخبر الناس بما يفكرون فيه فحسب، بل تُحدد ما الذي ينبغي أن يفكروا فيه، ومتى، وكيف.

الإعلام السوداني… حين صار صدى أكثر من كونه صانعًا

في السودان، كانت تجربة الإعلام أشبه بمرايا متقابلة تعكس الضوء لكنها لا تصنعه.

في فجر الاستقلال، اتخذ الإعلام الرسمي خطابًا تعبويًا وحدويًا، لكنه تجاهل تنوع الهويات والثقافات، فترسخت فكرة المركز والهامش دون أن تُقال صراحة.

ثم جاءت مرحلة الانفتاح بعد الإنقاذ، فازدادت المنابر وتعددت الأصوات، لكن انكسرت وحدة الرسالة.

تحولت كل منصة إلى جزيرة منفصلة تصوغ جمهورها على هواها، حتى أصبح المشهد الإعلامي أشبه بـ غرف صدى لا تسمع إلا ما يُرضيها، لا ما يُصلحها.

هكذا خسر السودان أحد أهم عناصر قوته الناعمة: السرد الوطني الموحّد.

فقد انشغلنا بتداول الحدث أكثر من صناعته، وبالجدل حول التفاصيل أكثر من بناء الصورة الكبرى.

▪️ بيئة لا تُستنسخ… بل تُلهم

الإعلام لا يعيش في الفراغ، بل في بيئة تشكله وتحدّد ملامحه.

لهذا، لا يمكن استنساخ نموذج قناة “الجزيرة” في قطر أو “TRT” في تركيا دون فهم الفوارق الجذرية في السياق السياسي والاجتماعي والثقافي.

فالسودان ليس نسخة من أحد؛ هو نقطة التقاء خمس حضارات تمتد من النيل إلى السافنا، ومن الصحراء إلى الغابات.

هو إفريقيا والعروبة في آن، وهو التاريخ والجغرافيا في جسدٍ واحد.

هذه ليست مجرد هوية، بل ثروة رمزية يمكن تحويلها إلى مورد وطني يعزز من مكانة السودان عالميًا.

إننا بحاجة إلى إعلامٍ يعكس هذه الفرادة لا أن يُسطّحها، ويصوغها كقوة ناعمة وطنية لا كصراع داخلي على الرواية.

▪️ من إعلام التبعية إلى إعلام السيادة

المشكلة لم تكن يومًا في ضعف الكاميرا أو ندرة الصحفيين، بل في غياب البوصلة.

فكل مرحلة سياسية أنشأت إعلامها الخاص، دون أن تؤسس لإعلام الدولة.

وحين تغيب الرؤية السيادية، يتحول الإعلام إلى وظيفة دعائية بدل أن يكون أداة استراتيجية لصناعة التأثير.

لهذا، فإن التحول من “إعلام التبعية” إلى “إعلام السيادة” ليس ترفًا نظريًا، بل ضرورة لبناء رأسمال وطني رمزي يحمي صورة السودان في الداخل والخارج.

مشروع وطني باسم “أفق”

آن للسودان أن يفتح لنفسه نافذةً على العالم تعكس حقيقته لا صورته المشوّهة.

ومن هنا تبرز رؤية إنشاء صندوق سيادي للإعلام والترويج الوطني تحت اسم “أفق”، يعمل بذات روح الصناديق السيادية الاقتصادية، ولكن في مجال الوعي والهوية والقوة الناعمة.

أفق ليس مجرد اسم، بل وعد ورؤية:

منصة ترتبط بالهوية الوطنية، تعكس التنوع، تعيد ترتيب الأولويات، وتحوّل الإعلام من ناقل للأزمات إلى صانع للحلول.

يمكن لهذه المؤسسة أن تعمل في ثلاثة مسارات استراتيجية مترابطة:

إعادة تشكيل الصورة الذهنية للسودان عالميًا من خلال محتوى احترافي متعدد اللغات.

تحويل الموارد والفرص الاستثمارية إلى رواية وطنية تستنهض الثقة وتستدعي الشركاء.

بناء وعي داخلي جامع يربط المواطن بدولته عبر سرديات الوحدة والتنمية والعمل.

الإعلام كقوة ناعمة تعيد تعريف السودان

العالم اليوم لا يُدار بالبندقية فقط، بل بالصورة، وبالقدرة على صياغة الرواية الوطنية.

ومن لا يملك روايته سيُروى عنه ما لا يريد.

الإعلام ليس رفاهية سياسية، بل ذراع سيادية تُعيد إنتاج القوة، وتحوّل الوعي إلى طاقةٍ وطنية خلاقة.

رؤية الجسر والمورد

إن “الجسر” الذي يربط الدولة بالمجتمع اليوم هو الإعلام الواعي المستقل،

و“المورد” الذي يمكن أن يعيد للسودان مكانته ليس الذهب وحده، بل الرواية السودانية ذاتها.

#أصل_القضية، حين نؤمن بأن السودان ليس مجرد مساحة جغرافية، بل رسالة حضارية تمتد من النيل إلى القارة،

ندرك أن “أفق” ليس مشروعًا إعلاميًا فحسب،

بل إعلان ميلادٍ جديد لصوت السودان… بصورته التي تليق به، لا بتلك التي رُسمت له.

-باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى