رأي

أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. السودان… من إرادة السلطة إلى إرادة الدولة

 

| من سلسلة الجسر والمورد

> “حين تعجز الدولة عن تعريف نفسها، يعرفها الآخرون بالنيابة عنها.”

منذ فجر الاستقلال في يناير 1956، والسودان يعيش جدلية لم تُحسم بعد:

من يحكمه؟ وكيف يُحكم؟

كانت الإجابة تتبدل كل عقدٍ تقريبًا، بين الديمقراطيات الهشة والانقلابات المتماسكة شكلاً والمفككة جوهراً.

لكن خلف هذه التحولات ظلت فكرة واحدة هي الحاكمة: إرادة السلطة لا إرادة الدولة.

من الاستقلال إلى العجز البنيوي

ورث السودان دولةً قامت على توازن هش بين الإدارة الاستعمارية والمجتمع الأهلي.

لم يكن هناك مشروع وطني جامع يعيد تعريف الدولة على أسس فكرية أو اقتصادية مستقلة.

فأول حكومة وطنية جاءت بميراث دولة أُنشئت لتُدار لا لتتطور.

ومنذ ذلك الحين، ظل الصراع حول من يملك أدوات القوة، لا من يملك رؤية الدولة.

الديمقراطية الأولى (١٩٥٦م –١٩٥٨م) كانت مرحلة الانتقال من الرمزية إلى العجز،

تلتها الأنظمة العسكرية التي حاولت فرض النظام بالقوة، فخلقت تراكماً من الانقسام والمركزية والتهميش.

أما الديمقراطية الثانية والثالثة، فلم تكن عودة للحرية بقدر ما كانت عودة للفوضى تحت شعارها.

وهكذا، بقي السودان يتحرك داخل دائرة مغلقة:

حكمٌ عسكري يُجهض الحرية باسم الانضباط، وحكمٌ مدني يُبدّد الدولة باسم الحرية.

إرادة القوة في صياغة الحكم

لم تُبنَ مؤسسات الحكم في السودان على فكرة المشاركة الواعية، بل على إرادة السيطرة.

كل نظام جاء ليُعيد إنتاج نفسه لا الدولة.

وحين تتراجع شرعية القوة المادية، تبرز قوة الخطاب – الدين، الثورة، أو الهوية – لتملأ الفراغ.

وهكذا تحوّل الحكم من وظيفة لخدمة الأمة إلى غريزة للبقاء السياسي،

فتآكلت أجهزة الدولة، وتحوّلت الخدمة المدنية إلى فضاءٍ للولاءات لا الكفاءات.

هذا النمط من إدارة الحكم أنتج ما يمكن تسميته “تقاطع الإرادة والبناء”.

أزمة إدارة وأخلاق ورؤية معاً،

حيث لا أحد يجرؤ على هدم القديم، ولا أحد يملك القدرة على بناء الجديد.

من ديسمبر إلى حرب الكرامة… انهيار الشكل وبقاء الفكرة

حين اندلعت انتفاضة ديسمبر ٢٠١٨م، بدا وكأن السودان يستعيد صوته.

لكن سرعان ما انكشفت الحقيقة: لم تكن هناك “فكرة دولة” جديدة، بل رغبة في إزاحة الوجوه القديمة.

وعندما غابت الرؤية الجامعة، انفجر التناقض الكامن بين المدني والعسكري، والمركز والهامش، والثورة والدولة،

حتى بلغ ذروته في أبريل ٢٠٢٣م، مع اندلاع حرب الكرامة.

تلك الحرب ليست حدثاً عسكرياً فحسب، بل مرآةٌ عميقة لجوهر الأزمة السودانية:

ففيها تجلّت إرادة القوة في أقسى صورها،

وتحوّل الصراع من نزاع على السلطة إلى نزاع على تعريف السودان نفسه.

حكومة الأمل… من إدارة الأزمة إلى صناعة الفرصة

وفق رؤية “الجسر والمورد”، فإن هذه اللحظة التاريخية لا ينبغي أن تُقرأ كنكبة، بل كنقطة ميلاد جديدة.

“حكومة الأمل” لا يجب أن تكون مجرد سلطة انتقالية أو إدارة يومية للأزمة،

بل مؤسسة تأسيس جديدة للدولة، تستند إلى ثلاث ركائز استراتيجية:

١. تحويل الحرب إلى مختبر وطني لإعادة تعريف القوة:

فالقوة ليست في من يحمل السلاح، بل في من يُعيد بناء الوعي الوطني والمؤسسات المدنية.

يجب أن تتحول “إرادة القوة” من غريزة بقاء إلى إرادة بناء.

٢. إعادة هندسة الدولة على أساس العدالة المكانية والمعرفية: لا يكفي أن تُدار الموارد بعدالة، بل يجب أن يُعاد تصميم الدولة لتكون موردًا للمواطنة لا وسيلة للسلطة.

أي أن يتحول المركز من موقع احتكار إلى منصة تنسيق بين الأقاليم والجهات.

٣. تأسيس عقد وطني جديد يربط الحق بالمسؤولية لا بالمطالبة:

فكل مرحلة سابقة بُنيت على منطق “الاستحقاق”، بينما يجب أن تُبنى المرحلة الجديدة على منطق “الالتزام”.

هذا هو التحول الجوهري من دولة “الحقوق المتنازعة” إلى دولة “الواجب المشترك”.

الجسر والمورد… من رماد الدولة إلى هندسة الوعي

إن فلسفة “الجسر والمورد” لا ترى في الدولة كيانًا إداريًا فحسب،

بل موردًا للنهضة الأخلاقية والمعرفية، وجسرًا بين الإنسان ووعيه الوطني.

ولهذا، فإن حكومة الأمل مطالبة بأكثر من بناء البنية التحتية؛

عليها أن تبني البنية الفوقية للفكرة السودانية ذاتها:

أن تعيد للسيادة معناها، وللإدارة رسالتها، وللسياسة أخلاقها.

في قلب حرب الكرامة، يختبر السودان قدرته على أن يولد من ذاته،

فإما أن تظل الدولة “مشروع سلطة بلا روح”،

وإما أن تتحول إلى روح وطن تتجسد في مؤسساتٍ فاعلة وواعية ومسؤولة.

#أصل_القضية: ما بعد إرادة القوة

لقد حان الوقت لأن ينتقل السودان من مرحلة إرادة السلطة إلى إرادة الدولة،

ومن منطق الغلبة إلى منطق المسؤولية المشتركة.

ذلك هو الطريق الذي رسمته رؤية “الجسر والمورد”:

أن تكون “حكومة الأمل” نقطة التحول من إدارة الواقع إلى إعادة تخيله،

ومن وطنٍ يحارب كي يبقى، إلى وطنٍ يبني كي يخلد.

– باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى