
أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. الفاشر… حين تصحو الحياة من بين أنقاض الصدمة
| من سلسلة الجسر والمور
في كتابه «التطور الخلاق»، كتب الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون عن تلك القوة الدافعة التي تُعيد للحياة معناها، حتى وسط العدم، سماها «الاندفاع الحيوي»؛ طاقة الخلق التي ترفض أن تُستعبد أو تُطفأ. وبعد قرنٍ كامل، جاءت نعومي كلاين في كتابها «عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث» لتشرح الوجه الآخر للمعادلة — كيف تُستغل الصدمات الجماعية لإعادة هندسة الأمم واقتصاداتها ومصائرها.
وما بين الوعي الخلاق وعقيدة الصدمة، يقف السودان اليوم في قلب العاصفة.
فما جرى في الفاشر لم يكن مجرد سقوطٍ لمدينة، بل كان سقوطًا مزلزلًا لأوهام كثيرة. هناك، على تخوم الغرب السوداني، سُفكت الدماء كي يستيقظ الوعي. سقطت الجدران فارتفع الإدراك، وتكشفت المأساة الكبرى: أن ما يُمارس ضد السودان ليس حربًا داخلية فقط، بل حرب على وعيه وسيادته وتاريخه وموارده.
في الشرق الأوسط الجديد، تُصنع الدول الوظيفية كما تُصنع الأدوات: تُفرّغ من السيادة، وتُبرمج لخدمة مشاريع القوة الإقليمية والدولية. أرادوا للسودان أن يُختزل في أدوارٍ محددة — سوقًا للنفوذ، ومعبَرًا للموارد، وساحة لتجريب نظريات الهيمنة.
لكن الفاشر قلبت المعادلة.
لقد فجّرت في الشعب السوداني «الوعي الخلاق» الذي تحدث عنه برغسون — وعيٌ لا يستسلم للكارثة، بل يحولها إلى طاقة نهضة.
لقد حاولت قوى المال والنفوذ، وفي مقدمتها الإمارات، أن تُعيد صياغة السودان ضمن هندسة الشرق الأوسط الجديد، عبر السيطرة على موارده الذهبية والزراعية، ومحو تاريخه من سرديات الوعي الجمعي. لكن ما لم تدركه تلك القوى أن الوعي السوداني خرج من تحت الرماد، يقظًا، متقدًا، قادراً على التمييز بين الحلفاء والأطماع.
فحين تصاعدت الحملات الإلكترونية في مواقع التواصل الاجتماعي تكشف تدخل الإمارات في دعم المليشيات وقتل السودانيين، ظهر تفاعل شعبي واسع وهشتاقات غاضبة ضد هذا التدخل، قابلتها الإمارات بحساباتٍ وهمية تُفعّل هاشتاق #SaveSudan في محاولةٍ للالتفاف على الوعي الوطني وتبرير التدخل الخارجي.
لكن الوعي السوداني الخلاق التقط الخيط سريعًا، وأدرك أن ذلك التحرك المموّه لم يكن سوى تمهيدٍ ناعمٍ لاستدعاء الأمم المتحدة للتدخل تحت البند السابع — تمامًا كما تفعل قوى “عقيدة الصدمة” حين تُحوِّل المأساة الإنسانية إلى مدخلٍ للهندسة السياسية من الخارج.
وهذا تحديدًا ما نذهب إليه في #أصل_القضية: أن الحرب الحقيقية ليست على الأرض فقط، بل على وعي الشعب وإدراكه لما يُحاك ضده.
من هنا تتجلى رؤية الجسر والمورد كاستراتيجية وعيٍ جديد، تُدرك أن المعركة لم تعد عسكرية فحسب، بل وجودية ومعرفية.
فمن يملك وعيه، يملك قراره، ومن يفقد وعيه، يُدار من بعيد كما تُدار الشركات الوظيفية في عقيدة الصدمة.
إن السودان اليوم — جيشًا وشعبًا — يعيد اكتشاف ذاته وسط الدمار.
تُخاض ضده حرب ناعمة لطمس ذاكرته وإفراغ موارده، لكنه يقاومها بوعيٍ متجدد، وبدافعٍ خلاق يبعث الحياة في أطلال الدولة ليصنع نموذجًا جديدًا في المنطقة: نموذج السيادة الواعية، لا التبعية المريحة.
لقد علمتنا الفاشر أن الصدمة، مهما كانت موجعة، لا تُنهي التاريخ، بل تبدأه من جديد.
ومن بين الدمار، تتشكل اليوم ملامح سودانٍ خلاقٍ، ينهض من بين أنقاض الصدمة ليعيد للعالم تعريف معنى الدولة الحرة في زمن العبودية الحديثة.
ففي الوقت الذي تُبنى فيه دول الشرق الأوسط الجديد على “الوظيفية”، يُبنى السودان على “الرسالة والسيادة”.
وفي زمنٍ يُباع فيه الوعي، يشتري السودان وعيه بالدم.
وهنا يكمن أصل القضية:
أن تكون سودانيًا اليوم، يعني أن تحيا ب «التطور الخلاق» في وجه «عقيدة الصدمة»،
وأن تختار — رغم كل شيء — أن تخلق الحياة من جديد.
– باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية






