
أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. الفقر… حين تتحول الفكرة إلى إعاقة عقلية
من سلسلة الجسر والمورد
الفقر ليس جوعًا في المعدة… بل قيدًا في المخيلة.
في قلب كل أمة، يبدأ الفقر حين يترسخ في وعيها أنها عاجزة، حتى ولو كانت تجلس على موارد عظيمة.
هذا ما نبه إليه أوريسون سويت ماردن قبل أكثر من قرن: الفقر ليس مجرد غياب للمال، بل هو حالة عقلية تشبه الإعاقة. وحين يُصاب بها الفرد، تتعطل طاقته… وحين تُصاب بها الأمة، تُعطَّل نهضتها.
هذا المقال محاولة لقراءة الفقر لا كظاهرة اقتصادية فقط، بل كحالة عقلية جماعية، وذلك عبر مزاوجة بين أطروحات ماردن ورؤية “الجسر والمورد”.
الفقر الذهني… أخطر من الفقر المادي
حين يسود الإحساس بالعجز، لا يُصبح الفقر مجرد حرمان، بل يتحول إلى “عقدة” تُكبِّل الطموح.
الأخطر أن هذه العقدة تخلق حلقة مفرغة: خوف من المستقبل، ضعف ثقة بالنفس، وشلل في اتخاذ القرارات.
فحتى لو وُضعت الموارد بين أيدينا، سنظل فقراء… لأن عقولنا لا ترى الفرص.
الأسئلة الكبرى أمام السودان
في ظل هذا الفهم، تطرح أسئلة مصيرية:
■ كيف يمكن للسودان، وهو بلد يملك أنهارًا وذهبًا وأرضًا خصبة، أن يُصنَّف بين الدول الفقيرة؟
■ هل مشكلتنا في ندرة الموارد… أم في عقلية الفقر التي ورثناها عبر خطابات سياسية وإعلامية سلبية؟
■ كيف نحرر وعينا من فكرة العجز ونحوّل الموارد إلى ثروة، بدل أن نتركها نهبًا للتنافس الدولي؟
■ وأي مشروع وطني يمكن أن يوازن بين تحرير الذهن وبناء الهياكل الاقتصادية؟
الفقر كحالة عقلية… رؤية ماردن
يرى ماردن أن أخطر ما يواجه الإنسان ليس ظروفه القاسية، بل قناعته أنه عاجز.
الفقر عنده يبدأ من الذهن: من اليأس، وفقدان الأمل، والشعور بالدونية.
ويقدّم وصفته البسيطة: زرع الأمل، تحديد الأهداف، والمثابرة.
لكن حين نوسّع الدائرة إلى مستوى الأمم، فإن هذه الوصفة تعني ثورة وعي وطنية قبل أي إصلاح اقتصادي.
قراءة “الجسر والمورد”: السودان بين المورد والعقلية
وفقًا لرؤية “الجسر والمورد”، السودان ليس بلدًا فقيرًا، بل بلدًا مُعطَّل الذهن.
غياب الثقة جعلنا نستهلك خطابات المظلومية أكثر مما نستثمر مواردنا.
●خذ مثال القمح: نحن بلد السلة الغذائية، ومع ذلك نستورد القمح بدل أن نصدره.
●خذ الذهب: يخرج عبر التهريب أكثر مما يدخل عبر البنوك.
●خذ الشباب: يهاجرون بأحلامهم إلى الخارج بينما البلد في أمس الحاجة إليهم.
هذه ليست أزمات موارد، بل أعراض “عقلية الفقر”.
التحرر يبدأ من الإعلام والتعليم، من تربية جيل يرى في النيل مورد قوة لا مادة نزاع، وفي الأرض فرصة إنتاج لا ساحة حرب.
الجسر هنا هو إعادة وصل الذات بإمكاناتها، والمورد هو تحويل تلك الإمكانات إلى ثروة عبر عقلية إيجابية جامعة.
خطورة بقاء “عقلية الفقر”
■ حين نفكر بعقلية العجز، نصبح لقمة سائغة للتبعية الاقتصادية.
■ حين نرى أنفسنا “مستضعفين”، نُعيد إنتاج الاستغلال الخارجي بأيدينا.
■ حين نستسلم للشعور بالفقر، نُفرّط في مواردنا الاستراتيجية بأبخس الأثمان.
ثورة الوعي… من الفرد إلى الأمة
الحل لا يختزل في “إيجابية فردية”، ولا في “سياسات اقتصادية” فقط، بل في ثورة وعي وطنية تتكامل فيها:
● إصلاح الخطاب العام: من جلد الذات إلى صناعة الأمل.
● تعليم نوعي: يزرع الثقة ويكسر عقلية الفقر.
● إرادة وطنية صلبة: تُحوّل المثابرة الفردية إلى مشروع جماعي.
● إدارة استراتيجية للموارد: تُعيد تقديم السودان للعالم كبلد إمكانات.
● مشاركة فاعلة من الشباب والمغتربين: لبناء اقتصاد وطني بوعي عالمي.
● استثمار عوائد التأمين وتفعيل دور اتحاد شركات التأمين: عبر رؤية الجسر والمورد ومبادرة أصل القضية التي طُرحت تحت اسم “روافد”، ليصبح قطاع التأمين رافعة اقتصادية تُعيد تدوير الثروة داخل السودان وتدعم المشاريع الإنتاجية الكبرى.
أصل القضية : كسر العقدة قبل إدارة الثروة
كتاب ماردن يذكّرنا أن الفقر ليس قدرًا، بل عقدة ذهنية.
ورؤية “الجسر والمورد” تدعونا إلى تحويل هذا الدرس الفردي إلى مشروع وطني.
فالأمة التي تغيّر ما في عقولها، تغيّر مصيرها، وتكسر القيد قبل أن تستثمر المورد.
لأن أصل النهضة يبدأ من الوعي… والوعي لا يُستورد، بل يُصنع في وجدان الأمة.
* باحث في العلاقات الدولية