
أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. بعض المشاهد… مجرد ديكور
من سلسلة الجسر والمورد
العلاقات العامة وطغيان الصورة على الدبلوماسية… كيف تتحول الدول من منصات سيادية إلى وظائف مؤقتة
في السياسة الدولية، ليست كل الأضواء نعمة، ولا كل الصور نصرًا. فكم من دولة ملأت الشاشات بحضورها، لكنها غابت عن طاولة القرار عند صياغة الاتفاقات. وكم من عاصمة خطفت العناوين بعناوين براقة، لكنها في الخفاء أدت دورًا مؤقتًا في مسرح أكبر منها. بين بريق العلاقات العامة وعمق الدبلوماسية، تقف الدول على جسرٍ هش: إما أن تعبر به نحو منصة سيادية مستدامة، أو تنزلق عبره إلى وظيفة عابرة… لا تُذكر إلا في الهوامش.
فعالم اليوم، لم تعد موازين القوة تُقاس فقط بمدى امتلاكك للموارد أو القدرة على الحشد العسكري، بل أيضًا بقدرتك على إدارة صورتك وإقناع العالم بسرديتك. غير أن هذا التحول الرقمي-الاتصالي، الذي جعل الصورة تسبق النص، خلق بيئة خصبة لانزلاق بعض الدول من شراكة سيادية إلى وظيفة مؤقتة.
رؤية الجسر والمورد ترى أن الدولة الناجحة هي التي تُحوّل أدوات العلاقات العامة من مجرد واجهة براقة إلى جسر سيادي يعبر من خلاله المورد—بمفهومه المادي والمعرفي والثقافي—ليُحقق النفوذ والاستدامة. أما الدولة التي ترضى بوظيفتها كما هي، فهي تسلّم جسورها لغيرها وتصبح مجرد ممر، لا فاعل استراتيجي.
١. العلاقات العامة مقابل الدبلوماسية… المفارقة الحاسمة
■العلاقات العامة الدولية: إدارة الانطباع، صناعة السردية، اجتذاب التعاطف أو الدعم عبر الحملات الإعلامية والمبادرات الرمزية. هي أداة سريعة، لكنها عابرة إن لم تسندها عقود ومؤسسات.
■الدبلوماسية التفاوضية: إدارة المصالح الحقيقية عبر القنوات الرسمية، صياغة اتفاقات مُلزمة، وبناء توازنات طويلة المدى.
وفق فلسفة الجسر والمورد:
> “العلاقات العامة تفتح الباب… لكن الدبلوماسية هي التي تدخل وتغلقه في وجه من لا يملك المفتاح.”
الخطورة تكمن حين يتحول السطح (PR) إلى بديل عن العمق (الدبلوماسية)، فيصبح العقد مجرد صورة، والسردية بلا أرقام، والجسر مجرد لافتة مضيئة بلا طريق.
٢. مفهوم الدولة الوظيفية… من الأداة إلى الفخ:
الدولة الوظيفية هي التي تُختزل قيمتها في أداء دور واحد لصالح قوة أو تحالف خارجي—أمني، لوجستي، أو موارد محددة—بغض النظر عن قدراتها الأخرى.
■مؤشرات التوصيف الوظيفي:
●قابلية الاستبدال: أي دولة بديلة تستطيع أن تؤدي نفس الدور.
●تهميش المؤسسات السيادية: القرارات تُصنع خارج وزارات الخارجية والبرلمان.
●التغليف الاتصالي: كثافة المؤتمرات والبيانات، وغياب العقود المُلزمة المنشورة.
■في منظور الجسر والمورد، الدولة الوظيفية تعيش في “الحد الأدنى من القيمة”، بينما الدولة المنصة تسعى لـ “التصعيد القيمي” بتحويل وظيفتها إلى دور لا يمكن التخلي عنه.
٣. لماذا يطغى PR على الدبلوماسية؟
●ثورة المنصات: العالم اليوم أسرع في الاستجابة لصورة من توقيعه على معاهدة.
●الأمننة المفرطة: تضييق النقاشات تحت ذريعة الطوارئ.
●تعدد اللاعبين: دخول شركات التقنية والصناديق الاستثمارية كلاعبين يحتاجون إلى سرديات جذابة.
●إغراء المكاسب السريعة: تحقيق صورة “النجاح” أسهل من بناء مؤسسات قوية.
الرؤية الاستراتيجية تقول:
> “الصورة يمكن أن تجذب الأنظار… لكن العقد هو الذي يثبت الأقدام.”
٤. آليات تهميش الدبلوماسية أمام وهج الصورة
● إعادة تعريف النجاح: قمة دولية ≠ اتفاق ملزم.
● التغليف الاتصالي للملفات الحساسة: كل شيء يبدو مبادرة إنسانية بينما هو في جوهره صفقة غير معلنة.
●تهميش الخبراء والمؤسسات: استبدال الدبلوماسيين المحترفين بخبراء إعلام.
●التفاوض خارج الطاولة: القرارات الكبرى تحسم في الظل، بينما العلن مسرح للتسويق.
٥. الحالة السودانية… اختبار بخمس أسئلة
■أي ملف خارجي للسودان يمكن تحليله من خلال الاجابة على الاسئلة التالية:
●هل نحن مورد متعدد القيمة أم ممر أحادي الوظيفة؟
●هل الاتفاقات معلنة وقابلة للقياس، أم بيانات نوايا وصور؟
●من يقود القرار: المؤسسات أم المستشارون الإعلاميون؟
●ما حجم القيمة المضافة الحقيقية (توطين، تدريب، نقل تقنية)؟
●هل يمكن استبدال السودان بسهولة في المعادلة الإقليمية؟
■كلما كانت الإجابات سلبية، زاد خطر الانزلاق نحو الدولة الوظيفية.
٦. استعادة التوازن… خارطة الجسر والمورد وذلك من خلال :
●ربط السردية بالمؤشرات: لا مؤتمر بلا أرقام محددة.
●تحويل المبادرات إلى عقود: كل حدث إعلامي يجب أن يقابله اتفاق مُلزم.
●تمكين الدبلوماسية الفنية: رفع كفاءة التفاوض في القانون والاقتصاد والتمويل.
●لا وظيفة بلا قيمة مضافة: كل دور أمني أو لوجستي يجب أن يرتبط ببناء قدرات داخلية.
●حوكمة التعددية: إشراك البرلمان والمراكز المستقلة في مراجعة الملفات.
●تحويل الوظيفة إلى منصة: البداية قد تكون دورًا واحدًا، لكن الهدف أن يصبح متعدد الأبعاد وغير قابل للاستبدال.
٧. الدروس المقارنة… من الواقعية إلى القوة الذكية
■سنغافورة: تحولت من ممر تجاري صغير بعد الاستقلال إلى منصة عالمية للتجارة والتمويل، بدمج القوة الناعمة (PR) مع الدبلوماسية الاقتصادية والاتفاقات طويلة الأجل.
■رواندا: بعد كارثة 1994، أعادت صياغة صورتها دوليًا كمنصة للتكنولوجيا والسياحة، مدعومة بعقود واستثمارات طويلة الأجل.
أصل القضية،،،
ليست العلاقات العامة عدوًّا، بل أداة ضرورية في عصر الرأسمال الرمزي. لكن خطرها يبدأ حين تصبح بديلاً عن الدبلوماسية، فتتحول الدولة إلى وظيفة مؤقتة بدل أن تكون منصة دائمة.
رؤية الجسر والمورد تدعو إلى أن تكون الصورة مُسنَدة بعقد، والسردية مدعومة بمؤشرات، والوظيفة مُرقّاة إلى قيمة مضافة. بهذه المعادلة، تستعيد الدولة موقعها كفاعل استراتيجي، لا أداة على هامش خرائط النفوذ.
* باحث بمركز الخبراء العرب