رأي

أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. تضاريس الشخصية السودانية

من سلسة الجسر والموررد

> “الشخصية ليست مجرد طباع فرد، بل تاريخٌ متراكم في جسد جماعة.”

١) الشخصية بوصفها خريطة

حين نسأل: كيف يفكر السودانيون؟ فإننا لا نبحث فقط في طرائق الإدراك، بل في البنية العميقة للشخصية: كيف تُدار العاطفة؟ كيف يتشكل الوعي الجمعي؟ كيف تُترجم القيم إلى أفعال؟

وفقًا لنظريات الهوية الجمعية (Tajfel & Turner) والجغرافيا الثقافية، الشخصية لا تُبنى في فراغ، بل تُنحت من بيئة طبيعية–تاريخية: صحراء تصبر، نهر يفيض، جبل يعتز، وغابة تتنوع. هذه التضاريس ليست صورًا بل عناصر حقيقية في تشكيل الوعي والسلوك.

٢) الصحراء: مدرسة الصبر والنجاة

من الصحراء ورثنا طاقة التحمّل. الشخصية السودانية تتحمّل القهر والحرمان بدرجة لافتة، لكنها لا تنفجر سريعًا. الصبر هنا ليس خنوعًا، بل حكمة بقاء: أن تُراكم الصمت حتى تأتي اللحظة المناسبة.

لكن الصحراء علّمتنا أيضًا الميل إلى التسويف: الانتظار الطويل قبل القرار، قبول الأمر الواقع حتى ينهار من تلقاء نفسه. هذه المفارقة (قوة الصبر وضعف المبادرة) تشكّل ضلعًا مركزيًا في الشخصية السودانية.

٣) النهر: سيولة الكرم والعاطفة

النيل هو الأب الروحي للشخصية السودانية. يفيض بكرم لا يُحد، ويهب الحياة للجميع بلا حساب. لذلك تجد السوداني أكثر الناس استعدادًا للفزعة، لإكرام الغريب، للعطاء عند الشدائد.

لكن هذه السيولة العاطفية تجعل الشخصية أحيانًا غير منضبطة: كثير من القرارات تُبنى على “المزاج” أو “الوجدان”، لا على الحساب. نحن نُحسن العطاء لحظة الأزمة، ونضعف حين يُطلب منا التخطيط الطويل.

٤) الجبل: الكبرياء والكرامة

الجبل في وجدان السوداني رمز الكرامة. الشخصية السودانية عزيزة النفس، ترفض الذلّ، وتعتز بالكرامة حتى في الفقر. هذه القيمة جعلتنا شعبًا صعب الكسر.

لكن الكبرياء الجبلي له كلفة: كثيرًا ما يعيق الاعتراف بالخطأ أو قبول النقد. تتحول الحساسية المفرطة إلى حواجز نفسية تمنع التطور. الكبرياء إذن موردٌ هائل إن صيغ في مشروع وطني، وعبءٌ ثقيل إن بقي مجرد شعور.

٥) الغابة: التنوع والظلّ

الغابة رمز التعدد. في السودان أكثر من ٥٠٠ مجموعة إثنية، مئات اللهجات، وعادات لا حصر لها. الشخصية السودانية وُلدت في حضن هذا التنوع، لذلك هي شخصية مرنة، متسامحة، قادرة على التكيف.

لكن الغابة أيضًا مكان تنافس وظلال كثيفة؛ ما لم تُهندس هذه التعددية في إطار عدالة ومساواة، تتحوّل إلى صراعات داخلية. وهنا يظهر التحدي الأكبر: كيف نُدير التنوع لا أن نُدجّنه أو نُلغيه؟

(وهذا ما يشير إليه علم الاجتماع السياسي في مسألة إدارة التنوع مقابل سياسات الإقصاء).

٦) الوادي: الذاكرة الشفهية والحنين

الوادي هو الذاكرة التي تحفظ المياه بعد الفيضان. السوداني يُحافظ على ذاكرته بالحكاية، بالمثل الشعبي، بالقصيدة، بالأغنية. لذلك شخصيته شديدة الحساسية للجمال وللرمز.

غير أن الذاكرة الشفهية تجعل الشخصية تميل إلى التكرار أكثر من الإبداع، وإلى استعادة الماضي أكثر من بناء المستقبل. الحنين إذن جزء أساسي من وعينا، لكنه بحاجة إلى “تأطير مؤسسي” يحوّل العاطفة إلى مشاريع لا إلى بكائيات.

٧) شخصية بين قوتين: الجماعة والفرد

الشخصية السودانية تتأرجح بين “الانصهار في الجماعة” (خاصة في الأزمات) وبين “التمرد الفردي” في الحياة اليومية.

وهنا تتقاطع مع نظرية الهوية الاجتماعية: حيث يتسع الـ”نحن” في لحظات الخطر، ثم ينكمش لصالح الـ”أنا” في الحياة اليومية.

هذه المزاوجة تجعلنا مبدعين في الفزعة، لكن ضعفاء في المؤسسة. لأن الفزعة تعتمد على الوجدان، بينما المؤسسة تحتاج الالتزام بالقواعد.

٨) الملامح العميقة للشخصية السودانية

●الصبر أكثر من المبادرة.

●العاطفة أكثر من الحساب.

●الكرامة أكثر من المصلحة.

●التسامح أكثر من الانضباط.

●الذاكرة أكثر من التخطيط.

هذه الخماسية تُشكل “DNA الشخصية السودانية”.

٩) من التضاريس إلى المورد

وفق رؤية الجسر والمورد: لا ننظر لهذه السمات كعُقد، بل كموارد تنتظر إعادة هندسة:

●الصبر → طاقة استدامة في المشاريع طويلة المدى.

●العاطفة → قوة ناعمة في صناعة التضامن المجتمعي.

●الكرامة → سردية وطنية تحمي السيادة والهوية.

●التسامح → رأسمال اجتماعي يُشجّع على الوساطة والتسويات.

●الذاكرة → إرث ثقافي يمكن تحويله إلى اقتصاد إبداعي.

١٠) الترجمة العملية: ماذا نفعل بهذه الخريطة؟

●في التعليم: تحويل الموروث الشفاهي إلى مناهج تحفّز التفكير النقدي لا التكرار.

●في الإعلام: بناء خطاب وطني يُصالح الكرامة مع الواقعية، والعاطفة مع الحساب.

●في إدارة التنوع: الانتقال من مجرد “تسامح” إلى “عدالة مؤسسية” تكفل الحقوق وتمنع الانفجار.

●في العلاقات الدولية: توظيف الكرم والمرونة السودانية كـ”قوة ناعمة” لصناعة السلام والتسويات.

١١) نحو مدرسة سودانية في فهم الشخصية

كما ميّز “نيسبت” بين الشرق والغرب، فإن الشخصية السودانية تستحق أن تُدرس كـ”مدرسة ثالثة” في علم الاجتماع السياسي: مدرسة الشخصية الهجينة–المرنة–الوجدانية.

فهم الشخصية ليس ترفًا فكريًا؛ بل أساس النهضة. حين نعرف كيف نفكر ونشعر ونتصرّف، نملك مفاتيح بناء دولة تُشبهنا.

أصل القضية،،،

الشخصية السودانية ليست متناقضة بقدر ما هي متعددة الأبعاد: صحراء وجبل ونهر وغابة ووادي. وما لم ندرك هذه التضاريس ونحوّلها إلى موارد، سنظل نُكرّر أزماتنا. لكن حين نرسم خريطة العقل والوجدان معًا، سنكتشف أن ما نملكه ليس عبئًا، بل ثروة معنوية قادرة أن تكون أساسًا لنهضة سودانية أصيلة.

* باحث بمركز الخبراء للدراسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى