
أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. ثورة العقل… أم ثورة الوعي
|من سلسلة الجسر والمورد
في بدايات التاريخ البشري، وقف الإنسان أمام السماء حائراً، كما نقلت لنا قصة إبراهيم عليه السلام: «هذا ربي… هذا أكبر». كانت تلك لحظة الوعي الأولى: لحظة سؤال، لا لحظة جواب.
وفي موضع آخر من القرآن تأتي آية أخرى لا تقل عمقاً: «كلما دخلت أمة لعنت أختها…».
آيتان تبدوان بعيدتين، لكنهما تصفان حال السودان اليوم بدقّة مؤلمة: الأولى تحكي رحلة البحث عن الحقيقة، والثانية تحذر من دورة صراع لا تتوقف لأن كل فريق يرى نفسه “الأكبر” والأكثر حقاً.
منذ الاستقلال — بل منذ اللحظات التي سبقته — ونحن نتعثر في السؤال الخطأ:
من؟
من يحكم؟ من يمثل؟ من يقرر؟ من يسبق؟
وتأخر استقلالنا عاماً كاملاً لأن النخب انشغلت بـ “من”، وغاب سؤال “كيف”.
ولم يكتفِ الداخل باجترار هذا السؤال، بل وجد الخارج فيه ثغرة ذهبية: فتغذّت الخلافات، وتعمّقت الشروخ، وتحوّل المواطن إلى وقود في معركة ليست معركته.
ليس غريباً إذن أن : يقولون أسوأ ستة أحرف.
ثورة العقل… حين يتحول السؤال
في كتابه “ثورة العقل” يرى جوناثان إسرائيل أن المجتمعات لا تنهض بالقرارات السياسية وحدها، ولا بتغيير الحكّام، ولا بالانقلابات، بل بثورة معرفية داخل وعي الفرد.
لن تنهض الأمم — كما يشرح إسرائيل — إلا عندما ينكسر “احتكار الإجابات الجاهزة”، ويتحول الفرد من متلقٍ إلى فاعل، من موضوع للتاريخ إلى صانع للتاريخ.
حين نُسقط هذا على الواقع السوداني، نجد أن أعظم أزماتنا لم تكن يوماً في “الحرب”، بل في “العقل الذي يسمح للحرب أن تحدث”.
لم تكن في “الهدنة”، بل في “الوعي الذي يكرر الحيرة نفسها، والصراع نفسه، واللعن ذاته… كلما دخلت أمة”.
وهنا بالضبط يدخل المفهوم العميق الذي كتبّناه سابقاً:
المواطن السوداني… العائق الأعظم والأمل الأكبر.
فالمشكلة ليست في “الشعب” كمجموعة، لأن كلمة “شعب” تسمح بتذويب المسؤولية. لكن كلمة “مواطن” تحمّل الفرد دوره الكامل: دوره في التفكير، في السؤال، في الرفض، وفي البناء.
الجسر والمورد… رؤية لثورة وعي لا ثورة سلاح
تقوم رؤية “الجسر والمورد” — كما نفهمها ونستلهمها — على أن النهوض يبدأ من مستويين:
1) الجسر: وعي جديد يعبر من الفرد إلى المجتمع
الجسر ليس شعاراً، بل طريقة تفكير:
●جسر بين المعرفة والفعل
●بين الاختلاف والاحترام
●بين التاريخ والدروس الحقيقية
●بين الواقع والحل الممكن
●بين المواطن وبلده
هذا الجسر هو الذي يبدد سؤال “من؟” ويصنع سؤال “كيف؟”.
٢) المورد: الإنسان نفسه
السودان ليس فقيراً في موارده، لكنه منهك في مورد واحد فقط: العقل المشتت.
موردنا الحقيقي ليس الذهب ولا النفط ولا الزراعة… بل الإنسان الذي يستطيع أن يقول:
“أنا جزء من الحل، لا جزء من المشكلة”.
كيف نعيد تعريف وصياغة الوعي السوداني؟
بالنظر في أطروحات ثورة العقل، يمكن تلخيص الطريق في ثلاثة مفاتيح:
١) هدم قداسة السؤال الخطأ
حين نكرر سؤال “من؟” نمنع الوعي من التطوّر.
السؤال الصحيح هو:
كيف نبني دولة لا تعتمد على الأشخاص، بل على الفكرة؟
٢) الاعتراف بأن الخارج لا ينجح إلا بوجود فراغ داخلي
ليس الخارج قوة خارقة… بل نحن من فتح له الباب.
إغلاق هذا الباب يبدأ داخل العقل الفردي، لا داخل المؤسسات.
٣) إعادة تعريف المواطنة كـ “مسؤولية فكرية”
المواطن ليس جمهوراً ينتظر بيانات، بل صانع قرار في حياته اليومية:
كيف يتعامل؟ كيف يفكر؟ كيف يختلف؟ كيف يقيم؟
●هنا يبدأ التغيير الحقيقي.
●الوعي الجديد… ليس نظرياً
الوعي الجديد ليس مقالة مثالية، ولا محاضرة، ولا تنظيراً سياسياً.
الوعي الجديد هو أن يتحول المواطن من:
●ناقل للأخبار… إلى محلل لها
●مكرر للخطاب… إلى صانع للمعنى
●مستهلك للسرديات… إلى رافض للتحشيد
●عدو لأخيه السوداني… إلى شريك في المستقبل
قبل الحرب… أثناء الحرب… بعد الحرب… سيظل السؤال واحداً:
هل نحن مستعدون لثورة في العقل قبل الثورة في الواقع؟
#أصل القضية،،،
إذا كان عصر التنوير الأوروبي — كما يشرح إسرائيل — قد حرّر الإنسان من “سلطة لا تُسأل”، فإن السودان يحتاج اليوم إلى تحرير العقل من “صراعات لا تنتهي”.
إن أصل القضية ليس في الرباعية ولا الهدنة ولا البيانات ولا التصريحات…
بل في المواطن الذي يقرر:
هل سيبقى جزءاً من دائرة «كلما دخلت أمة لعنت أختها»؟
أم يصبح امتداداً لإرث إبراهيم: سائلاً، باحثاً، رافضاً للظنّ والاتباع بلا عقل؟
السودان لن يقوم بالتحشيد، لا بالشعارات، لا بالأمنيات.
سيقوم فقط حين يتحول العقل إلى جسر… والمواطن إلى مورد… والفكرة إلى ثورة هادئة تعيد تشكيل الوعي من جديد.
– باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية









