رأي

أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. حرب الدبلوماسية أم دبلوماسية الحرب؟

 | من سلسلة الجسر والمورد

> “حين تضع الحربُ قلمَها، تلتقطه الدبلوماسية لتواصل الكتابة بالمداد نفسه… لكن بألفاظٍ أكثر أناقة.”

من وراء استمرار الحرب في السودان؟

في ظاهر المشهد، حربٌ بين جيشٍ نظامي ومليشيا متمرّدة.

لكن في العمق، هي حرب سردياتٍ ودبلوماسياتٍ متقاطعة، تُدار على أكثر من مستوى:

– داخليًّا عبر تفكيك منظومة الدولة الوطنية،

– وإقليميًّا عبر إعادة هندسة موازين النفوذ في وادي النيل والقرن الإفريقي،

– ودوليًّا عبر تجريب مختبرٍ جديد لـ«إدارة الفوضى» وتدوير الموارد.

إنّ ما يجري في السودان ليس مجرد صراعٍ على السلطة، بل هو – وفقًا لفلسفة الجسر والمورد – تجسيدٌ حيّ لتنافس القوى على موقع السودان كممرّ وكمصدر:

ممرٍّ للنفوذ بين البحر الأحمر والداخل الإفريقي، ومصدرٍ للموارد التي تعيد تشكيل معادلة الاقتصاد العالمي.

بين الاستعمار والتحرير: قراءة في فكر جمال حمدان

في كتابه «استراتيجية الاستعمار والتحرير»، يقرر د. جمال حمدان أن الاستعمار لم يمت، بل أعاد هندسة نفسه.

لم يعد يأتي بجنودٍ، بل بخرائط مصالح، ولم يعد يحتلّ أرضًا، بل يحتلّ إرادة.

وما يجري في السودان اليوم هو تطبيق حرفي لما سماه حمدان “التحرير الموجَّه” — تحريرٌ يُدار عن بُعد ليعيد إنتاج التبعية في ثوبٍ جديد.

فحين يُراد لبلدٍ أن يُستنزف، لا تُرسل إليه الجيوش، بل تُطلق عليه مبادرات السلام الانتقائية، ويُعاد تشكيل وعيه عبر دبلوماسية العدسة: تلميع القاتل، وتشويه المدافع عن الدولة.

العدسة التي تصنع الوعي

كما أشار خالد محمد أحمد (أبو الخُلد) في مقاله البديع،

فإن الحرب الإعلامية على الجيش السوداني هي حرب دبلوماسية بصرية بامتياز:

العدسة تُعيد ترتيب الوعي قبل أن تُعيد ترتيب المشهد.

يُقدَّم العميل في موقع المبادرة، ويُدفع البطل إلى خانة الدفاع،

وتتحوّل السردية الدولية من سؤال: “من بدأ الحرب؟” إلى “لماذا لا يقبل الجيش الهدنة؟”.

هكذا تُحاصَر الحقيقة تحت قصف الصورة.

وهو ما يُعرف في نظريات العلاقات الدولية بـ«القوة الإدراكية» (Cognitive Power)،

حيث يصبح من يملك المنصة أقدر على تعريف المفاهيم وتحديد من هو “الشرعي” ومن هو “المعطل للسلام”.

من فريدريك وليام إلى كريستين كيردلاين: ديمقراطية الهيمنة وسوق الحرب

في كتابه «الهيمنة الكاملة: الديمقراطية الدكتاتورية في النظام العالمي الجديد»،

يُفكك فريدريك وليام وهمَ «الحرية» في عصر القوة الناعمة،

ويشرح كيف تحوّلت الدبلوماسية إلى أداةٍ لإدارة الحروب بالوكالة،

تحت شعاراتٍ أخلاقيةٍ براقة، لكن جوهرها اقتصادي نَهِم.

وهذا ما نراه في السودان اليوم:

حربُ تمويلٍ أكثر من كونها حرب سلاح.

المنظمات، المبادرات، المبعوثون، كلها تعمل ضمن ما تسميه كريستين كيردلاين في «أقوى من الدول»

بـ”رأسمالية النفوذ”، حيث يتحكم المليارديرات والشركات العابرة في قرارات الدول.

فما يُعرض على السودان من هدنةٍ ليس اتفاق سلام، بل صفقة إدارة نفوذ على أنقاض دولة.

حرب التوافق الاجتماعي

انطلاقًا من نظرية التوافق الاجتماعي،

يمكن قراءة الحرب السودانية كحالة انهيار في «العقد الجمعي» الذي يربط الدولة بمجتمعها.

لكن هذا الانهيار لم يكن عفويًّا، بل مُدبَّرًا لإعادة توزيع الشرعية.

حين يُقنعون الناس أن الدولة فاسدة، وأن المليشيا مخلِّصة،

فإنهم يعيدون بناء التوافق الاجتماعي على قاعدةٍ مزيّفة.

إن التحدي الحقيقي اليوم ليس في وقف إطلاق النار،

بل في إعادة بناء الوعي الوطني كشرطٍ مسبقٍ للسلام.

فلا سلام بلا سيادة، ولا دبلوماسية بلا جيشٍ وطني يملك قرارها.

الدبلوماسية السودانية القادمة: من ردّ الفعل إلى صناعة الفعل

إنَّ قرارات مجلس الأمن والدفاع -السوداني- الأخيرة تمثّل نقطة تحوّلٍ جوهرية في بنية الدولة السودانية،

إذ أعادت تعريف الجيش بوصفه الضامن الأول للسيادة الوطنية، لا مجرد طرفٍ في نزاع داخلي.

ومع هذا التحوّل، يبرز الدور التاريخي المنتظر من الدبلوماسية السودانية:

الانتقال من دبلوماسية الدفاع عن المواقف إلى دبلوماسية صناعة المواقف.

وفقًا لرؤية الجسر والمورد، يتأسس هذا الدور على ثلاث ركائز:

١. دبلوماسية الوعي:

تفكيك الصورة النمطية التي روّجتها الحملات الإعلامية ضد الجيش والدولة،

وإعادة بناء السردية السودانية من الداخل، بحيث تصبح الرسالة الوطنية نفسها هي أداة الدبلوماسية.

٢. دبلوماسية التوازن:

السودان، في ظل اشتداد التنافس الدولي على موارده وموقعه، ليس مضطرًا للانحياز إلى محور،

بل قادر – كما ترسمه استراتيجية الجسر والمورد – على أن يكون جسرًا للتكامل لا ساحةً للصراع،

عبر تنويع شراكاته السياسية والاقتصادية، واستثمار موقعه كحلقة وصل بين البحر الأحمر وعمق إفريقيا.

٣. دبلوماسية البناء الداخلي:

فليس ممكنًا تصدير خطابٍ دبلوماسيٍ قوي دون بنية وطنية متماسكة.

لذا يجب أن تتكامل الدبلوماسية مع جهود مجلس الأمن والدفاع في إعادة هيكلة مؤسسات الدولة،

وتعزيز ثقة المجتمع الدولي في استقرار السودان عبر خططٍ لإعادة الإعمار والحوكمة الرشيدة.

بهذا المعنى، لا تعود الدبلوماسية السودانية تابعةً للقرار العسكري،

بل مكمّلةً له في اتجاه بناء الدولة الحديثة؛

فمجلس الأمن والدفاع – السوداني – يثبّت حدود السيادة، بينما الدبلوماسية ترسم آفاقها المستقبلية.

السودان بين الحرب والدبلوماسية… حين تصنع الرسالة المصير

رغم تعقيدات المشهد وتشابك المصالح، فإن السودان لا يزال يمتلك أعظم موردٍ لم يُستنزف بعد: الوعي الجمعي حين يستيقظ.

فالدبلوماسية الحقيقية ليست في الخطب والمؤتمرات،

بل في قدرة الأمة على قراءة نوايا الآخرين قبل أن تُكتب عليها السيناريوهات،

وفي امتلاكها إرادة الفعل لا مجرد ردّ الفعل.

> الحرب قد تفرض عليك واقعًا،

لكن الدبلوماسية الواعية تصنع لك مصيرًا.

والسودان، رغم الجراح، ماضٍ ليكتب مصيره بيده… لا بعدسة غيره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى