رأي

أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر..”خمسة سنين” … غيّرت مسار السودان

– باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية

في كتابه «من الذي دفع الثمن؟» تساءل فرانسيس ستونور عن أولئك الذين يتحملون عبء الأوهام الكبرى حين تتحول الشعارات إلى سلعٍ سياسية، وتُباع الأحلام في أسواق الأيديولوجيا بثمن الوطن نفسه.

وفي «الفجر الكاذب»، كتب ستيفن إيه كوك عن ربيعٍ ظُنَّ أنه ولادة، فإذا به موسم حصادٍ مرٍّ للمؤامرات والخيبات، وعن شعوبٍ صدَّقت أن التغيير يبدأ من الشارع، ولم تدر أن الخرائط تُرسم في الظلال، لا في الميادين.

أما آصف بيات في «ثورة بلا ثوار» فقد وضع إصبعه على الجرح حين كشف أن ما سُمِّي بالثورات العربية لم يكن فعل وعيٍ جماعي منظم، بل انفجار طاقة اجتماعية بلا قيادة، بلا مشروع، وبلا بوصلة.

ومن رحم هذه القراءات الثلاث، يطلّ السودان بوجهه المثخن بالتجارب منذ ديسمبر ٢٠١٨م — لحظة وُلدت فيها شعارات الحرية والسلام والعدالة كأنها وعدٌ بالخلاص، لكنها سرعان ما تحولت إلى اختبارٍ للوعي الجمعي، لا إلى انتصارٍ له.

لقد كان المشهد أشبه بـ”فجرٍ كاذب” بكل ما تعنيه الكلمة من رمزية؛ بدا النور في الأفق، لكن سرعان ما اتضح أنه انعكاس لهبٍ من بعيد، لا ضوء صبحٍ حقيقي.

فمنذ تلك اللحظة، تَرك السودان مقود الوعي في يد الشارع، دون أن يُحسَم سؤال: أي شارع؟ وبأي وعي؟ ولصالح من؟

فالشارع الذي توحّد في الغضب، لم يتوحّد في الهدف؛ كان شارعًا متعدد الولاءات، مختلف المرجعيات، تتجاذبه التيارات الحزبية والمصالح الشخصية، وتخترقه الأجندات الخفية التي أفسدت نقاء الحلم الوطني.

انقسمت السردية الوطنية بين من أراد بناء دولةٍ مدنيةٍ بالمعنى الغربي، ومن تمترس خلف إرثٍ عقائدي، ومن تسلل بين الصفوف يعمل لصالح أجنداتٍ لم تُعلَن، لكنها كانت حاضرة في كل مفصل من مفاصل المشهد.

ثم جاء أبريل ٢٠٢٣م، ليس كحدثٍ منفصل، بل كخاتمة منطقية لما بدأ قبل خمس سنوات.

فالحرب لم تُخلق في ميادين القتال، بل في الفراغ الذي تركه وعيٌ مغشوش، وإعلامٌ مسيّس، ونخبٌ بلا مشروع.

إنها، بتعبير أدق، “ثورة بلا ثوار” انتهت إلى حربٍ بلا وطن.

وفي هذا السياق، يُطلّ علينا كتاب «الطابور الخامس» لأحمد جابر حسنين كعدسةٍ كاشفة، يفضح تلك القوى التي تسللت من داخل الجسد الوطني لتنهشه من الداخل، بلسان الوطنية، وراية الثورة، وشعارات الخلاص.

لقد أصبح الداخل أخطر من الخارج، والخيانة أقرب من المدى، والوعي المزيف أخطر من العدو المسلح.

فالحرب لم تكشف فقط هشاشة الدولة، بل أعادت تعريف معنى الانتماء، وأكدت أن الوعي الوطني ليس مجرد موقفٍ عاطفي، بل منظومة حماية ضد التلاعب بالعقول واستلاب الإرادة.

لكن وسط هذا الركام، ثمة حقيقةٌ ساطعة:

أن السودان، رغم كل شيء، لا يزال يمتلك مقومات النهوض، إن استطاع أن يحسم معركته الحقيقية — معركة تحرير الوعي.

فـ”الثورات لا تُقاس بعدد المتظاهرين، بل بعدد الواعين”، كما كتب أحد الحكماء.

وما تحتاجه البلاد اليوم ليس ثوارًا جددا، بل وعيًا جديدًا، يصنع التوازن بين الانفعال والعقل، بين العدالة والعفو، بين التاريخ والمستقبل.

وهنا تتجلى رؤية الجسر والمورد بوصفها دعوة لإعادة بناء المشروع الوطني من الداخل — لا بالرفض، بل بالربط؛ لا بالقطيعة، بل بالتكامل؛ لا بالشعار، بل بالفعل.

إنها لحظة أن يعبر السودان من ثورة الشعارات إلى ثورة الوعي والسيادة، من صراع الهويات إلى مشروع الدولة، ومن عبث الفوضى إلى وعي البناء.

فالتاريخ لا يرحم من يكرر خطأه،

والوطن لا ينهض إلا حين يدرك أن الحرية بلا وعيٍ… هي شكلٌ آخر من العبودية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى