رأي

أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. قميص السودان… بدم كذب أفسد الوعي

| من سلسلة الجسر والمورد

— باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية

هناك لحظات في تاريخ الأمم تتجاوز حدود السياسة، وتتجاوز ضجيج المعارك… لحظات تحتاج فيها الشعوب إلى “صدمة وعي” لا إلى بيان عسكري، وإلى صفعة إدراك لا إلى مؤتمر صحفي.

السودان اليوم يعيش إحدى هذه اللحظات النادرة، تلك اللحظات التي تتخفّى فيها الحقيقة في وضح النهار، فيمرّ الخطر أمام العيون… كما مرّت “الغوريلا الخفية” أمام المشاركين في تجربة شابريس وسايمونز، ولم ينتبه إليها معظمهم رغم أنها كانت في قلب المشهد.

الغوريلا السودانية… التي لا نراها

نحن — في السودان — نعيش التجربة ذاتها.

نعدّ “تمريرات الأزمة”، ونراقب “مواقع القتال”، ونغرق في متابعة “الأسماء”… بينما تمرّ الغوريلا السودانية الحقيقية أمامنا دون أن نراها:

– استلاب الوعي

– تزييف السردية

– إعادة تشكيل الإدراك الجمعي

– تحويل الشعب من فاعل… إلى متفرّج

تمامًا كما أراد إخوة يوسف أن يروّضوا إدراك يعقوب عليه السلام، فجاؤوا “على قميصه بدم كذب”.

لم يكتفوا بارتكاب الفعل… بل صنعوا سردية وهمية لتغطية الفعل.

المأساة لم تكن في فقد يوسف…

بل في محاولة صناعة وعي زائف يغطي الحقيقة بدمٍ مصمَّم بعناية.

وهذا — تحديدًا — ما يُدار اليوم في السودان.

دمٌ كاذب على قميص الوطن

هناك من يجيئون اليوم بقميص السودان ملوّثًا بكل أصناف “الدم الكذب”:

– دم يبرر السقوط بأنه طبيعي

– دم يفسّر الاختراق بأنه سوء تقدير

– دم يجعل الخراب نتيجة خلاف أفراد… لا مشروع تفكيك دول

– دم يصوّر الحرب كمعركة مواقع… لا هدم بنية ووعي وسردية

لكن أخطر ما في الدم الكاذب…

أنه لا يهدف إلى إقناعك فقط، بل إلى إعادتك إلى النوم.

هنا يسقط الوعي… لا المدن فقط.

“بماذا الإيمان؟”… سؤال اللحظة السودانية

في كتاب “بماذا الإيمان؟” يطرح أمبرتو إيكو فكرة مذهلة:

أن الإيمان الحقيقي ليس تصديق الغيب فقط… بل تشريح الخداع البشري قبل تصديق أي “قميص” يُقدّم لك.

اليوم يُراد للسوداني أن يؤمن بكل قميص يُرفع أمامه:

– قميص إعلام

– قميص خطاب

– قميص تبرير

– قميص روايات صغيرة تغطي مشاريع كبيرة

لكن الإيمان الصحيح — كما يقول إيكو — يبدأ بسؤال:

ما الذي لم يُقل؟ ما الذي يُخفى؟ وما الذي يريدونني ألا أراه؟

هل رأيت الغوريلا؟

هل رأيت الدم الكاذب؟

هل رأيت اليد التي تصنع الوعي بدلاً من أن تتركك تتشكل بحرية؟

السودان الآن: بين قميص يوسف… وغوريلا الإدراك

السودان لا يعيش حربًا على الأراضي فقط… بل حربًا على رؤية العين وذاكرة العقل:

١) حرب على القدرة على الربط

أن ترى الحدث منفصلًا عن السياق.

مدينة تسقط؟ حدث عابر.

موقع يُخترق؟ خطأ فردي.

حوار سياسي مرتبك؟ طبيعة المرحلة.

هكذا يُفكّك الوعي.

٢) حرب على السردية

أن يُقال لك من تكون… قبل أن تسأل نفسك.

٣) حرب على الإيمان بالذات الوطنية

أن يصبح الوطن خبرًا… لا ذاتًا.

٤) حرب على الإدراك الجمعي

أن تمرّ الغوريلا أمامك — غوريلا التفكيك والاختراق والاستلاب — ولا تراها.

الجسر والمورد: ليس مشروعًا… بل أداة استعادة البصر والبصيرة

في هذه اللحظة العمياء، تأتي “الجسر والمورد” كمشروع لا يبحث عن سلطة… بل عن احتفاظ الدولة بوعيها.

الجسر والمورد، في جوهره، هو سؤال واحد:

كيف نمنع الدم الكاذب من أن يصبح حقيقة؟

وهو يقوم على ثلاثة أفعال عاجلة:

١) ترميم السردية الوطنية

لا بمعنى رفع الشعارات…

بل بإعادة تعريف معنى أن تكون سودانيًا في عالم يريدك مشتتًا، غائبًا، مستلبًا.

٢) تحرير الوعي من الداخل

بكشف الغوريلا التي تعبر بيننا…

الغوريلا التي ليست حيوانًا، بل “مشروع نظام” لترويض الإدراك.

٣) إعادة بناء دولة تمتلك بوصلة… لا ذكريات

دولة تضع الوعي قبل البنية التحتية،

والسردية قبل الطرق،

والانتماء قبل الخطابات.

لحظة الحقيقة: هل نمتلك شجاعة يعقوب؟

يعقوب عليه السلام لم ينخدع بالدم الكاذب، رغم حبّه، وضعفه الإنساني، والمشهد المصنوع بإتقان.

قال بثبات نادر:

> “بل سوّلت لكم أنفسكم أمرًا…”

لأن الإيمان الحقيقي… ليس تصديق الدم على القميص،

بل رؤية ما وراءه.

واليوم، السودان لا يحتاج فقط إلى من يقاتل…

بل إلى من يرى.

من يرى الغوريلا.

من يرى الدم الكاذب.

من يرى الخيط الذي يربط كل الأحداث ببعضها.

ومن يملك الشجاعة ليقول:

> “بل سوّلت لكم رواياتكم أمرًا… ولسنا مخدوعين.”

السودان لا يسقط عندما تسقط مدينة… بل عندما يُسلّم وعيه

إن أخطر ما قد يحدث هو أن يتحول السوداني إلى رجل يصدّق كل قميص…

إلى رجل لا يرى الغوريلا التي تمرّ في وضح النهار…

إلى رجل يتعامل مع الخراب كأنه عارض، مع الاختراق كأنه تفصيل، مع سقوط المدن كأنه خبر.

السودان يُسرق اليوم من “مركز وعيه”… لا من أطرافه.

وما لم نستعد الإدراك… سنبكي على وطن لم نرَ سقوطه إلا متأخرين.

أما الآن… فلا بدّ من أن يهز الوعي لا العاطفة فقط:

متى سيحمل القميص الحقيقي… قبل أن يُرفع القميص الملطخ بدم كاذب على كل البلد؟

#أصل_القضية…

جرس الإنذار… لا يرنّ مرتين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى