رأي

أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. ما بين نداء الاستغاثة وصناعة الكارثة: واقع السودان

|من سلسلة الجسر والمورد

لم تعد الصرخات منفردة ولا النداءات مجرد أصواتٍ تتلاشى في الفضاء. ما يحدث في السودان اليوم هو متتالٍ من مشاهدٍ تبدو متفرقة، لكنها تتكامل لتكوّن صورةً مقصودة: حرب لا تُخاض على أرضٍ بعينها فحسب، بل تُخاض على حياة الإنسان وصحته وكرامته ومستقبله. إنْ لم نعد نؤمن بالسحر، فقد بَطُل فعلاً؛ لكننا أمام غِطاءٍ انكشف، وأمام ألعابٍ من تصغير الكارثة وتحويلها إلى سلعة تُباع وتشترى.

الاستيقاظ قبل فوات الأوان

السوداني ليس رقماً في معادلة، ولا سلعةً في سوق؛ هو مجتمعٌ له جذورٌ وثقافةٌ وكرامة. لكن عندما تتقاطع أهداف مجموعاتٍ عدة — داخلية وخارجية، سياسية ومصالحية — تتحول المعاناة إلى أدوات ضغط، والتحذير إلى صناعة للأزمات. علينا أن نوقظ ضميرنا الوطني قبل أن تُستنفد طاقاتنا الحيّة، قبل أن تتحول الكوارث إلى روتينٍ يومي.

■الفصول المتعاقبة للأزمة (قراءة مركّبة)

١. الحرب كآلية تفريغ وتحويل موارد

الحرب ليست دائمًا غيابًا للاجتماع بين الأطراف فقط؛ هي طريقة لإعادة تشكيل الأولويات، لتوجيه التمويلات، ولخلق سوقٍ سوداء للقدرة والنفوذ. في ظلها تُجمّد مشاريع التنمية، وتتعطل الخدمات الأساسية، وتصبح إدارة الكارثة صناعةً مربحة.

٢. المجاعة: النتيجة المتوقعة للسياسات المؤقتة

المجاعة لا تولد من فراغ؛ هي نتاج انهيار منظومات الإنتاج الزراعي، تعطّل سلاسل الإمداد، وغياب سياسات الحماية الاجتماعية. عندما يُحرَم الفلاح من موارد الري أو تُعرقل حركة التجارة الداخلية، نحصد الجوع.

٣. الأوبئة: كوليرا وحمى الضنك — أمراض الفقر والظروف

انتشارهما ليس مفاجئًا حين تتهاوى شبكات الصرف الصحي وتنتشر المياه الراكدة، في ظل ضعف الاستجابة الصحية وعدم وصول الخدمات الوقائية إلى المتضررين. هذا المنطق يجعل من معالجة الأوبئة مسألة أمنية وصحية في آنٍ واحد.

٤. الفيضانات المصطنعة وسياسات التحكم بالمياه

الحديث عن فيضانات “مفتعلة” أو تحكم في مسارات المياه ليس مجرد نظرية؛ هو إشارة إلى أن التحكم بالماء صار أداةً استراتيجية — سواء عبر مشاريع هيدرولوجية أدت إلى تغييرات مفاجئة، أو عبر سياسات إدارة مياهٍ ضعيفةٍ تقود إلى كوارث متكررة. قبل أن نناقش سدودًا بعينها، علينا أن نجرّ المسبح كله: أن نفهم متى ولماذا تُدار المياه بهذه الطريقة ومن يستفيد.

٥. الاستمطار والسياسات البيئية المثيرة للجدل

إذا وصل الأمر إلى الحديث عن تعديل الطقس، فهذا يعني أننا أمام دورات من اتخاذ إجراءات تبدو سريعة التأثير لكنها تفتقد إلى الشفافية والمساءلة.

■ما هو الثمن البيئي والاجتماعي لهذه الإجراءات؟

■ومن هم المستفيدون الحقيقيون؟

■من يتاجر بمعاناة السودانيين؟

تتداخل الأطراف: مجموعات سياسية تسعى للبقاء بالوسيلة الأقسى، شبكات فاسدة تسخر الأزمة لتمرير مصالح، فاعلون خارجيون يستثمرون الاضطراب لتحقيق مكاسب جيوسياسية أو اقتصادية، وسوق سوداء تتغذى على نقص الإمدادات والخدمات. في قلب هذه الشبكة يقف المواطن السوداني ضحية للتقاطع بين مصالحٍ لا تعترف بالإنسان. وإذا لم نكشف هذه الآليات، فإن الأزمة ستستمر دائرةً مفرغة.

■قراءة استراتيجية: لماذا يجب أن نهتم بتحليل التسلسل الكامل للأحداث؟

●لأن كل حدثٍ ــ من فيضان إلى وباء ــ ليس حدثًا معزولًا: هو نتاج سلسلة قرارات وإهمالات ومكاسب.

●لأن فهم منطق صناعة الأزمة يمكّننا من وضع حلولٍ مستدامة بدل حلولٍ مؤقتة تُعيد إنتاج المشكلة.

●لأن مواجهة التلاعب بالمعاناة تتطلب تضافر جهود مؤسساتٍ مدنية، شبكات إعلامية مستقلة، ومبادرات دولية شفافة تخضع لمحاسبة الشعب.

■خارطة طريق توضح خطوات تمكينية للخروج من دور الضحية

١. توثيق منهجي وشفاف للحوادث: منصات مقاربة للمجتمع المدني والمبادرات الصحفية تجمع أدلة وصورا وشهادات تُحفظ كقاعدة للضغط والمساءلة.

٢. حماية خطوط الإمداد الحيوية: تأمين سلاسل الغذاء والماء والدواء عبر قوانين طوارئ تضمنها جهات محايدة ومجتمع محلي فاعل.

٣. تعزيز النظام الصحي الوقائي: حملات تلقيح، تحسين صرف صحي مؤقت، وانتشار فرق طوارئ قادرة على الاستجابة لموجات الكوليرا وحمى الضنك.

٤. مراجعة سياسات إدارة المياه: لجنة مستقلة تقيّم مشاريع السدود والسياسات المائية وتأثيرها على السكان، وتُعلِن نتائجها علنًا.

٥. مقاربة اقتصادية بديلة: دعم الفلاحين، حوافز لإعادة تشغيل المصانع المحلية، وبرامج حماية اجتماعية للشرائح الأكثر هشاشة.

٦. تحشيد الرأي العام المحلي والدولي: حملات إعلامية ذكية تُظهر الوقائع وتضع أسماء الجهات المستفيدة تحت المجهر.

٧. بناء شبكات أمان مجتمعية: لجان محلية للحماية المدنية، شبكات غذائية مجتمعية، وبرامج تعليمية تُحفظ حقوق الأطفال أثناء النزاع.

■ نداء إلى الضمير الوطني

ليس علينا أن نؤدي دور السذاجة أو الصدمة المبررة. أمامنا خياران: أن نظل رهائنَ لمن يجرّب سياساته على أجسادنا، أو أن ننتفض كشبكة مواطنية واعية قادرة على رؤية الخيوط الموصلة بين الأحداث. الاستيقاظ مسؤولية جماعية: للصحافة أن تكشف، للمجتمع المدني أن ينظم، وللعالم أن يراقب، وللسودانيين أن يطالبوا بالعدالة والشفافية. لا مكان بعد اليوم للسكوت عن تجارة المآسي.

#أصل_القضية:الجسر والمورد – رؤية للخروج

رؤيتنا في الجسر والمورد ترصدُ ما يهدد الأساسيات: الإنسان والمكان والمستقبل. ولأننا نؤمن بأن البحث عن الجسر الصحيح — جسر يربط بين إرادة المجتمع ومورداته — هو السبيل للخروج من المأساة، فنحن ندعو لبناء جسرٍ مبني على الشفافية والمساءلة والاستدامة. ليست معركةً لحظةً تصدح فيها الأصوات ثم تتلاشى؛ إنها معركةٌ يومية تُؤسس لحق العودة إلى حياةٍ كريمة.

-باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى