
أصل القضية … من “تكية الفول المصلّح” إلى “تكية الأمل” (١-٣)
بقلم/ محمد أحمد أبوبكر – باحث بمركز الخبراء العرب
🔥 مشروع وطني ينضج على نار الوعي
🔸 حين كان للفول ذاكرة… و “للكمشة” معنى
في صباحات الجمعة التي كانت تفيض دفئًا رغم البؤس،
كان الفول أكثر من طعام… كان طقسًا.
و كان القدر لا يغلي فولًا فقط، بل يغلي معه قصص الناس و أحلامهم و مزاج الحي.
و كانت (التكية) تجمّعًا لقلوب تشترك في اللقمة كما تشترك في الحنين.
لا يسأل الجالس عن نسبك، و لا عن وظيفتك،
تجلس و تملأ صحنك… و تمتلئ معه بالانتماء.
كانت البطون تُشبع، لكن الأرواح كانت ترتوي أولًا.
ثم تغيّبت رائحة الفول… و غاب معها صوت الجماعة.
انفرط العقد، و ارتفعت الجدران و سكن الصمت في الزوايا.
و لم تعد التكية مكانًا… بل صارت ذكرى.
كأن “تكية الفول المصلّح” كانت آخر مائدة وطنية حقيقية،
حيث جلس الوطن كله… ثم قام و لم يعد.
🔹 فماذا لو عدنا… لا للمكان، بل للمعنى؟
الحنين وحده لا يبني… لكن الرؤية تفعل.
فلنعد لا إلى التكية التي كانت، بل إلى التكية التي يمكن أن تكون.
لا نريد قدر فول فقط، بل نريد قِدر وعي يغلي.
لا نطلب ملعقة، بل نطلب يدًا تُبادر.
لا نبحث عن مكان نأكل فيه… بل نبحث عن مكان نبني فيه مشروع وطن.
ماذا لو تحوّلت التكية من مائدة رحمة… إلى منصة تنمية؟
من صدقة عابرة… إلى مؤسسة منتجة؟
من لحظة دفء… إلى حجر أساس في بناء سودان 2050؟
🌿 التكية التنموية… حين يصير الوطن قدرًا يغلي بالحب
ليست قدر فول… بل قدر أمة.
ليست مائدة عابرة… بل مختبر اجتماعي للنهضة من القاع.
إنّها النموذج المختصر للوطن الكبير، و قد بدأت محاولاته تتبلور في واقعنا:
● في بعض زوايا الطرق الصوفية التي صارت تفتح صفوفًا لتعليم الأطفال.
● في دواوين القرى التي تحوّلت إلى مراكز صلح شعبي.
● في مبادرات الشباب التي تصنع الخبز وتوزعه مجانًا… لا لطلب الصدقة، بل لإثبات القدرة على تنظيم المجتمع من القاعدة.
🧾 ومضة توثيقية: “تكية أخبار حلتنا” … حين يصبح الشعار مشروعًا
في قلب هذه الفكرة، تتجلى إحدى المبادرات الشعبية التي جسّدت “تكية الأمل” بصورة حيّة:
إنها تكية قروب “أخبار حلتنا” — تجربة أهلية خالصة، شعارها البسيط والعميق:
> “سوا بنقدر”
لم تكن مجرد قدر فول يُطهى كل يوم، بل كانت قدرًا من المحبة والوعي والتكاتف المجتمعي.
ففي أحياء متفرقة من السودان، وأثناء أشد لحظات الانقطاع والمعاناة، استمرت هذه التكية في تقديم ما هو أكثر من الطعام:
قدّمت شعورًا بأن الوطن ما يزال حيًّا بيننا… يتجلى في مشاركة رغيف، وفي دعاء جماعي، وفي دفء الناس لبعضهم البعض.
وصدق شعارهم:
“الفول المُصلّح عمره ما بيغيب… لأنه ما بسدّ جوع، هو فكرة. و الفكرة لمن تتشارك، بتبقى وطن.”
هذه المبادرة تُعد واحدة من العلامات المبكرة على أن التكية ليست مؤسسة خيرية تقليدية، بل بذرة اقتصاد تضامني و مشروع وعي شعبي، تنمو كلما آمن الناس بأنفسهم و ببعضهم.
فتخيل معي:
في كل تكية، مشهد يتكرّر كل يوم:
🎓 طفل جاء ليلعب… فجلس و تعلم أولى حروف اسمه.
🧓 عجوزة أمسكت بالقلم بعد انقطاع أربعين عامًا… لتكتب كلمة “بلدي”.
👩🏽🦱 (كنداكة) شابة تدرّس للبنات الصغار، ثم تصنع الصابون في زاوية أخرى و تبيع ما تنتجه عبر السوق الإلكتروني المحلي.
🛠️ وفي الخلف:
°ماكينة خياطة تدور،
°مخرطة نجارة تصنع مقاعد للتلاميذ،
قدر فول يغلي على نار الفحم،
ودفتر المقترحات على طاولة صغيرة مفتوحة لمن لديه فكرة أو شكوى.
هذه ليست خيالات…
بل بذور فكرة نبتت فعلًا في التكايا العفوية في أحياء بورتسودان، نيالا، مدني، شندي… لكنها فقط تنتظر من ينظّمها.
🌍 التكية و التنمية المستدامة: عندما تلتقي الذاكرة بالإستراتيجية
ما تبدو عليه التكية من بساطة في الشكل، يخفي في جوهره واحدة من أذكى صور التنمية القاعدية المستدامة.
فهي لا تحقق الاكتفاء اللحظي فحسب، بل تجسد على أرض الواقع أهدافًا تنموية كبرى وضعتها الأمم المتحدة ضمن أجندة 2030:
• القضاء على الفقر (الهدف 1): لأنها لا تعطي الناس فقط، بل تجعلهم يشاركون في الإنتاج و العمل المجتمعي.
• التعليم الجيد (الهدف 4): بما تقدمه من فرص تعليم غير رسمي، و محو أمية وظيفية و تنمية مهارات الحياة من القاع.
• العمل اللائق و النمو الاقتصادي (الهدف 8): حين تتحول إلى حاضنة أعمال مصغّرة، تخلق وظائف ذات طابع محلي و اقتصاد تضامني.
• الحد من أوجه عدم المساواة (الهدف 10): فهي تسد فجوات الحرمان بالمشاركة لا بالانتظار.
• السلام و العدل والمؤسسات القوية (الهدف 16): عندما تخلق قنوات حوار، و مجالس صلح أهلية و آليات مساءلة قاعدية.
و في هذا السياق، فإن بعض الحكومات المحلية –و إن بصورة غير منظمة– قد تبنّت جزئيًا فكرة التكية في معالجة النزوح المؤقت، لكن بدون رؤية استراتيجية واضحة تربط هذه المبادرات ببنية الدولة.
و هكذا، فإن “التكية التنموية” ليست بديلًا مؤقتًا للدولة، بل هي رافعة ذكية لاستكمال الدولة من الأسفل بمنطق تشاركي جديد.
كما تلتقي هذه الرؤية مع مبادئ الاقتصاد الاجتماعي التضامني، الذي يُعيد تعريف العلاقة بين العمل، الربح، والقيمة الإنسانية، على أساس العدالة و المشاركة.
💬 التكية هي وطن مُصغّر:
● ركن التعليم محو الأمية، تحفيظ، دروس حياة.
● ركن الإنتاج خياطة، أعمال يدوية، تغليف منتجات منزلية.
● ركن الحوار صلح مجتمعي، تبادل أفكار استماع للمشكلات.
● ركن التغذية تقديم الطعام للمحتاج، و الضيف و العامل معًا.
● ركن الإدارة دفاتر الحي، الصندوق الشعبي، تنظيم الوقت و المهام.
ربما كان الفول ذات يوم طبقًا للفقراء…
لكن اليوم، يمكن أن يكون وصفة وطن بأكمله.
في قدر التكية، لا نُعدّ طعامًا فقط،
بل نُعدّ فكرة… و ننضجها على نار التجربة و نقدّمها بملاعق الوعي.
و التكية التي تحيي البطن، يمكنها أيضًا أن تحيي العقل.
إلى الجزء الثاني…
نغوص أكثر في البنية التشغيلية:
● كيف يمكن للتكية أن تتحول إلى خلية إنتاج اقتصادية مجتمعية؟
● ما هي أدوات التمويل الذاتي و المساءلة الشعبية؟
● كيف يمكن للتكية أن تعيد تعريف “الفقر” لا كحالة دائمة… بل كمحطة تحوّل إلى قيمة مُنتجة؟
ترقّبوا: “حين تتحوّل الملاعق إلى أدوات إنتاج… و التكية إلى اقتصاد حي”.