رأي

إصلاح بنك السودان المركزي: بين التبعية والاستقلال المؤسسي

بقلم: أبو عبيدة أحمد سعيد

saeed.abuobida5@gmail.com

تأسيس البنك المركزي: أولى خطوات الاستقلال النقدي

عند استقلال السودان عام 1956، كان إنشاء بنك السودان المركزي خطوة محورية لتنظيم العملة والسياسات النقدية، لكنه لم يكن بعيدًا عن التوجيهات الحكومية. تأسس البنك بموجب قانون 1959، وبدأ عمله في فبراير 1960، مكلفًا بإصدار العملة وإدارة السياسة النقدية، تحت إشراف الحكومة المركزية. في تلك الفترة، كانت التبعية واضحة: البنك يعمل كأداة للحكومة في ضبط الاقتصاد، مع دور استشاري جزئي.

مسيرة تبعية البنك منذ الاستقلال

على مدار العقود، اختلفت جهة التبعية الرسمية للبنك، وهو ما أثر على استقلاليته وقدرته على ضبط السياسات النقدية:

• 1960–1970 البنك تابع مباشرة للحكومة المركزية، حيث كانت القرارات النقدية مرتبطة بالسياسات العامة للدولة، ولم تكن هناك جهة تشريعية مستقلة تشرف على نشاطاته.

• 1970–1982خلال فترة النظام المصرفي المزدوج، ظل البنك تحت إشراف وزارتي المالية والاقتصاد، مع تدخلات سياسية واضحة في تحديد أسعار الفائدة ونسب الاحتياطي.

• 1983–1994: مع تطبيق المصرفية الإسلامية، وظهور الهيئة العليا للرقابة الشرعية عام 1992، أصبح للبنك التزامات جديدة تتعلق بالتمويل الإسلامي، لكنه بقي مرتبطًا بالسلطة التنفيذية في اتخاذ القرارات النقدية الكبرى.

• 2005–2019 بعد اتفاقية السلام الشامل، أُدخل النظام المصرفي المزدوج رسميًا. بموجب الدستور الانتقالي لعام 2005، أصبح البنك تحت إشراف رئاسة الجمهورية، ثم الوثيقة الدستورية لعام 2019 ألحقته برئاسة مجلس الوزراء. هذا التحول أثار التساؤل: هل سياسات البنك تتأثر بتقلبات السلطة التنفيذية أم أنها مستقلة؟

• 2024 مع التعديلات الدستورية الأخيرة، انتقلت تبعية البنك إلى مجلس السيادة. لكن السؤال يبقى: هل الانتقال بين الرئاسة التنفيذية، مجلس الوزراء، ومجلس السيادة يعزز استقلالية البنك، أم أنه يعقد قدرة البنك على وضع سياسات نقدية موحدة ومستقرة؟

أدوات البنك ومحددات الاستقلالية

على مدار هذه السنوات، اعتمد بنك السودان على أدوات نقدية مباشرة وغير مباشرة، مثل أسعار الفائدة، نسب الاحتياطي، وضبط الائتمان. ومع التحول نحو المصرفية الإسلامية، ظهرت أدوات جديدة لضمان توافق التمويل مع أحكام الشريعة.

لكن السؤال المركزي يبقى: كيف يمكن للبنك أن يوازن بين التزامات التمويل الحكومي، الرقابة التشريعية، وضبط التضخم دون أن تؤثر التغيرات في التبعية على قراراته النقدية؟

الدروس المستفادة من التجارب الإفريقية

تجارب البنوك المركزية في إفريقيا تقدم إشارات واضحة:

• جنوب إفريقيا: البنك يخضع لرقابة السلطة التشريعية، ما يقلل من تأثير الحكومة التنفيذية على السياسات النقدية ويعزز استقلاليته.

• نيجيريا: تعديل قانون البنك المركزي لعام 2007 عزز الصلاحيات التنظيمية للبنك، وحمى قرارات السياسة النقدية من التأثير السياسي.

• كينيا: تعيين محافظ البنك ومجلس الإدارة عبر لجنة مستقلة تحت إشراف السلطة التشريعية يحمي البنك من التقلبات السياسية ويضمن استمرارية السياسات النقدية.

السؤال هنا: هل يمكن للسودان تبني نموذج مشابه يوازن بين التبعية القانونية للبنك واستقلاليته في إدارة السياسات النقدية؟

الطريق نحو إصلاح البنك المركزي

لتحقيق استقلالية البنك، يجب:

1. وضع إطار قانوني واضح يحدد تبعية البنك لمجلس تشريعي مستقل، مع صلاحيات واسعة لإعداد وتنفيذ السياسات النقدية.

2. تشكيل مجلس إدارة مؤهل وذي خبرة، وفترات ولاية متدرجة تضمن استمرارية القرار النقدي بعيدًا عن التأثيرات السياسية قصيرة المدى.

3. تطوير سوق رأس المال المحلي ليصبح بديلًا تمويليًا غير تضخمي لعجز الموازنة.

4. تعزيز الشفافية والمساءلة عبر تقارير نصف سنوية عن الوضع النقدي، ومراجعة محايدة لهامش أرباح المرابحات والسياسات النقدية.

خاتمة: استقلالية البنك بين الواقع والطموح

مسيرة تبعية بنك السودان المركزي تكشف تاريخًا مليئًا بالتحولات بين الرئاسة التنفيذية، مجلس الوزراء، ومجلس السيادة، وهو ما أضعف استقلاليته في أوقات حرجة. الإصلاح المؤسسي، المستند إلى دروس التجارب الإفريقية، يمثل فرصة لبنك السودان ليصبح جهة نقدية مستقلة، قادرة على ضبط التضخم، تنظيم السياسات النقدية، وتحفيز سوق رأس المال، بما يحقق التنمية الاقتصادية المستدامة.

الاستفهامات الاقتصادية مفتوحة للقارئ: كيف يمكن للبنك أن يحقق استقلالية حقيقية دون الإخلال بالتوازن المالي؟ وهل يمكن للتجربة الإفريقية أن تتحقق في السياق السوداني؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى