
الخرطوم بين الألم والأمل: صناديق للإعمار وتفكير خارج الصندوق
بقلم: أبوعبيدة أحمد سعيد saeed.abuobida5@gmail.com
الخرطوم اليوم تقف على مفترق طرق. العاصمة التي كانت مركزًا للحياة السودانية، تحولت بفعل الحرب والتخريب الممنهج من قوات الدعم السريع إلى مدينة مدمرة تنهشها الأوبئة، ويغرقها الظلام، وتئن تحت وطأة الدمار المادي والمعنوي.
وجع الحياة اليومية
• الملاريا وحمى الضنك تنتشران في الأحياء نتيجة تراكم الأنقاض وغياب الرعاية الصحية، لتصبح حياة آلاف الأسر مهددة.
• الكهرباء ما زالت مقطوعة في أغلب الأحياء، والمدينة تعيش في ظلام يضاعف الخوف.
• شبكات المياه مدمرة، والناس يقضون ساعات طويلة بحثًا عن جرعة ماء.
• المستشفيات إما أُحرقت أو نُهبت، والدواء شحيح.
• الأمن غائب، والناس يعيشون في حالة من القلق واللاطمأنينة.
وسط هذه الظروف، لم يعد الإنتاج ممكنًا. الناس يعيشون على التكافل والإعالة: مساعدات من الأقارب، تحويلات المغتربين، أو ما تجود به المبادرات الشعبية – التكايا. هذا النمط، رغم ضرورته، لا يمكن أن يصنع مستقبلًا. فالمجتمع إذا بقي مستهلكًا لا منتجًا، فإن الخرطوم ستبقى رهينة الأزمة.
رؤية اقتصادية–اجتماعية للإعمار
وفق الدراسات العلمية حول إعادة الإعمار بعد الحروب، فإن المدن يمكن أن تنهض إذا وُضعت لها خطط متكاملة تشمل البعد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. الخرطوم تحتاج إلى إعادة الإعمار على ثلاثة مستويات:
• البنية التحتية: كهرباء، مياه، طرق، مستشفيات.
• النسيج الاجتماعي: عودة النازحين، المصالحة المجتمعية، إعادة الثقة.
• الاقتصاد المحلي: تشغيل الشباب، دعم المشروعات الصغيرة، جذب استثمارات السودانيين في الخارج.
حجم الدمار أكبر من إمكانيات الولاية
الخرطوم كولاية لا تستطيع بمفردها أن تتحمل تكلفة الإعمار. حجم الخراب يفوق قدراتها المالية والإدارية، ويحتاج إلى رؤية قومية شاملة تستند إلى دعم وطني واسع ومشاركة السودانيين في الداخل والخارج، مع انفتاح مدروس على الشركاء الإقليميين والدوليين.
عودة النازحين والتحدي الاجتماعي
وفقًا لتقرير منظمة الهجرة الدولية، فقد عاد أكثر من 2 مليون و250 ألف سوداني إلى الخرطوم ووسط السودان خلال عشرة أشهر فقط، عقب سيطرة الجيش على هذه المناطق. هذه العودة الكثيفة تعكس الأمل لدى المواطنين في الاستقرار، لكنها في الوقت نفسه تفرض ضغطًا هائلًا على الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء والصحة والأمن. ومن هنا، فإن الإسراع في تنفيذ برامج إعادة الإعمار يعد ضرورة قصوى حتى لا يشعر العائدون بالإحباط أو يفقدوا الثقة في جدوى عودتهم، ولضمان اندماجهم من جديد في دورة الحياة والإنتاج.
صناديق إعادة الإعمار: بداية الحل
حتى لا تبقى الخطط مجرد شعارات، لا بد من تأسيس أربعة صناديق عملية:
1. صندوق الكهرباء: لإعادة تشغيل المحطات وإصلاح الشبكات.
2. صندوق المياه: لتأمين مياه نظيفة وحفر آبار جديدة.
3. صندوق الصحة: لإعادة بناء المستشفيات ومكافحة الأوبئة.
4. صندوق الأمن: لحماية الأحياء وإعادة الطمأنينة.
آلية التمويل والسداد
• تبرعات وطنية ودولية لدعم البداية.
• قروض ميسرة تُسدد عبر عوائد الاستهلاك المستقبلي للخدمات: فكل مواطن يستخدم المياه أو الكهرباء أو الخدمات الصحية والأمنية، يساهم بجزء من الرسوم في استرداد أموال الصناديق.
• مشاركة البنوك السودانية في هذه الصناديق عبر قروض تنموية وتمويلات ميسرة، مع ضمان استرداد أموالها من خلال رسوم استهلاك الخدمات.
• مساهمة القطاع الخاص والاستفادة من تحويلات السودانيين في الخارج لتوفير تمويل إضافي مستدام.
التفكير خارج الصندوق
لكن هذه الصناديق وحدها لن تكفي. الخرطوم تحتاج إلى تفكير غير تقليدي:
• تحويل الدمار إلى فرصة عبر إعادة تخطيط الأحياء بشكل حديث ومستدام.
• إدخال الطاقة الشمسية كحل سريع لأزمة الكهرباء.
• استخدام مبادرات مجتمعية محلية لتشغيل الشباب في حملات النظافة وإزالة الأنقاض مقابل حوافز.
• بناء شراكات مع منظمات إقليمية ودولية للاستفادة من خبرات إعمار المدن بعد الحروب.
الخرطوم الجديدة
إعادة إعمار الخرطوم ليست مجرد إعادة بناء مبانٍ، بل إعادة بناء حياة وكرامة وهوية. الخرطوم الجديدة يجب أن تكون مدينة منتجة لا مستهلكة، مدينة آمنة، متوازنة، تتسع للجميع، وتستمد قوتها من إرادة أبنائها. الخرطوم لا تحتاج فقط إلى المال، بل إلى فكرة جديدة. والفكرة تبدأ من الإيمان أن الخرطوم تستحق أن تُبنى من جديد، بأيدينا جميعًا، وبعقل يفكر خارج الصندوق.