
السودان بين السيولة الراكدة والدور المفقود للبنوك (2023 – أغسطس 2025)
إعداد – أبوعبيده أحمد سعيد محمد saeed.abuobida5@gmail.com
تضاعف السيولة المصرفية
يشهد الاقتصاد السوداني في الفترة من 2023 إلى أغسطس 2025 حالة غير مألوفة، إذ تتراكم الأموال المصرفية بوتيرة عالية بينما يظل التمويل الفعلي محدودًا نسبيًا. تكشف بيانات بنك السودان المركزي أن عرض النقود بمفهومه الواسع M2 ارتفع من 7.60 تريليون جنيه في 2023 إلى 14.48 تريليون جنيه في 2024، قبل أن يصل إلى 20.58 تريليون جنيه في أغسطس 2025. هذا النمو الكبير يعكس توسعًا نقديًا ملحوظًا بمعدل سنوي يقارب 42% بين 2024 و2025، ويأتي مرتبطًا بشكل أكبر بالتضخم واستبدال العملة أكثر من أي نمو حقيقي في النشاط الاقتصادي.
تركيبة النقود: من الجيب إلى الحساب
تحليل تركيبة النقود يظهر أن جزءًا كبيرًا منها ليس سائلًا للاستخدام المباشر:
• عرض النقود الضيق (M1)، الذي يشمل النقد المتداول والحسابات الجارية القابلة للسحب الفوري، ارتفع من 3.36 تريليون جنيه في 2023 إلى 7.36 تريليون جنيه في 2025، أي حوالي 35.8% من إجمالي M2.
• النقد لدى الجمهور، أي ما يحمله الأفراد للتعامل اليومي، ارتفع من 1.73 تريليون جنيه في 2023 إلى 2.69 تريليون جنيه في 2025، أي 13.1% من M2.
• الودائع تحت الطلب، الحسابات الجارية القابلة للسحب الفوري، زادت من 1.63 تريليون إلى 4.68 تريليون جنيه، بزيادة 186% خلال عامين.
• شبه النقود، أي الودائع الادخارية والاستثمارية، ارتفعت من 4.24 تريليون جنيه في 2023 إلى 13.22 تريليون جنيه في 2025، أي 64.2% من M2، ما يعكس سيولة كبيرة لكنها خاملة نسبيًا.
توضح هذه الأرقام أن الأموال المتراكمة في البنوك ليست فقط نتيجة ثقة متزايدة، بل بسبب عوامل مثل خوف الناس من حمل النقد خلال الحرب، واستبدال العملة الذي دفع المواطنين لفتح حسابات ادخار.
التمويل المصرفي مقابل حجم الودائع
بالرغم من زيادة السيولة، لم ينمو التمويل المصرفي بنفس الوتيرة:
• في 2023 بلغ التمويل المصرفي 2.42 تريليون جنيه مقابل ودائع 5.28 تريليون جنيه، بنسبة 45.9%.
• في 2024 ارتفع التمويل المصرفي إلى 3.68 تريليون جنيه مقابل ودائع 11.65 تريليون جنيه، بنسبة 31.6%.
• في أغسطس 2025 بلغ التمويل 4.62 تريليون جنيه مقابل ودائع 15.99 تريليون جنيه، أي نسبة 28.9%.
تشير هذه الأرقام إلى أن البنوك تحتفظ بسيولة ضخمة دون ضخها في النشاط الاقتصادي، بينما تعاني بعض البنوك من شح في السيولة رغم السيولة الزائدة على مستوى القطاع المصرفي. هذا الوضع يسلط الضوء على أهمية تدخل بنك السودان لتحليل السيولة لدى كل بنك، حيث يمكن للبنك المركزي إنشاء محافظ استثمارية مرتبطة بحجم السيولة لدى كل مؤسسة مصرفية، لضمان توجيه الأموال بشكل فعّال وتعزيز ثقة المواطنين في النظام المصرفي.
أثر الحرب والسياسات النقدية
الحرب المستمرة منذ 2023 عطّلت دورة المال والإنتاج بشكل واضح:
• إغلاق الطرق والمراكز التجارية قللت من النشاط التجاري.
• تراجع القدرة الإنتاجية للمصانع والمزارع بعد الخراب والدمار الذي طالها والبنية التحتية.
• انخفاض الصادرات.
• تحوّل البنوك إلى قنوات لتجميع السيولة بدل ضخها في النشاط الاقتصادي.
التمويل المصرفي أصبح أقل ارتباطًا بالنمو، بينما تتأثر حركة الأموال بالارتفاعات الكبيرة في المخاطر الائتمانية وضعف الضمانات، إضافة إلى تذبذب سعر الصرف الذي يصعب معه تمويل المشاريع طويلة الأجل.
توجيه السيولة نحو النشاط الحقيقي
تشير الأرقام إلى وجود إمكانات كبيرة لإعادة توجيه السيولة الراكدة بالبنوك نحو القطاعات الإنتاجية. يمكن تعزيز التمويل الاقتصادي عبر:
1. توجيه الأموال نحو الزراعة والصناعة والصادرات.
2. إنشاء صناديق ضمان ائتماني لتقليل مخاطر التمويل للبنوك.
3. استقرار سعر الصرف لتشجيع الاستثمار.
4. استخدام أدوات تمويل إسلامية طويلة الأجل مثل الاستصناع والمشاركة والمزارعة لتمويل الإنتاج الفعلي.
5. تنشيط التمويل الأصغر المرتبط بسلاسل الإنتاج عبر شركات التمويل الأصغر والجمعيات الإنتاجية.
6. إنشاء محافظ استثمارية لكل بنك وفقًا لحجم السيولة لديه لضمان توجيه الأموال بشكل فعال داخل الاقتصاد.
خلاصة التحليل
من 2023 حتى أغسطس 2025:
• تضاعف عرض النقود M2 من 7.6 إلى 20.58 تريليون جنيه.
• شكلت شبه النقود أكثر من 64% من الكتلة النقدية، وهي سيولة كبيرة لكنها لم تتحرك بالشكل الكافي في الاقتصاد.
• نما التمويل المصرفي بوتيرة أبطأ، وانخفضت نسبة التمويل إلى الودائع إلى أقل من 30% .
• بعض البنوك تعاني من شح في السيولة رغم السيولة الزائدة في القطاع المصرفي، ما يجعل تدخل بنك السودان من خلال تحليل السيولة وإنشاء محافظ استثمارية مرتبطة بحجم السيولة لدي كل بنك أمرًا ضروريًا لضمان توزيع الأموال وتعزيز ثقة المواطنين في الجهاز المصرفي.
تشير هذه الأرقام إلى أن الاقتصاد يمتلك نقودًا كثيرة، لكنها تحتاج إلى إعادة توجيه نحو النشاط الحقيقي لتحريك عجلة النمو وتحويل كل جنيه في البنوك من رقم جامد إلى قوة دافعة للتنمية.







