
السودان والبحر الأحمر في قلب التحولات.. قراءة استراتيجية في ظل زيارة ترامب وتصدّع التحالفات التقليدية
مكاوي الملك
في لحظة مفصلية يعيشها العالم العربي ..تكتسب زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للمنطقة أهمية استثنائية..ليس فقط من حيث التوقيت ..بل لما تحمله من رسائل متضاربة ..ومفاجآت غير متوقعة في تحالفات كانت تُعتبر سابقًا من الثوابت..لا سيما بين الولايات المتحدة وإسرائيل
فالعلاقة بين ترامب ونتنياهو التي طالما وُصفت بالصلبة تمر اليوم بأشد مراحلها توترًا . التصريحات التي نُسبت لرئيس الوزراء الإسرائيلي داخل الكنيست..والتي تحدث فيها عن إمكانية “الاستغناء” عن المساعدات العسكرية الأميركية .. تعكس حجم التصدع داخل المعسكر الموالي تقليديًا للولايات المتحدة . هذه ليست مجرد تصريحات عابرة..بل تدل على ارتباك إسرائيلي حقيقي من مخرجات زيارة ترامب للخليج .. خاصة أن الإدارة الأميركية – بحسب تقارير إسرائيلية – لا تشارك تل أبيب بتفاصيل تحركاتها وخططها كما كان يحدث سابقًا
غزة.. صفقة من خلف الكواليس ومفاتيح بيد تركيا ومصر وقطر
من جهة أخرى ..جاءت المفاجأة الكبرى من اتجاه لم يكن متوقعًا: مفاوضات أميركية مباشرة مع حركة حماس..بتنسيق ودور حاسم من مصر ..قطر وتركيا ..أدت إلى الإفراج المرتقب عن الجندي الأميركي-الإسرائيلي “إيدن ألكساندر” هذا التطور يُعتبر انقلابًا دبلوماسيًا خطيرًا على النمط التقليدي للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط صفقة تحمل أبعادًا أمنية وسياسية تتجاوز مجرد التبادل….ويكشف عن تحولات في الأولويات ..ومحاولة من ترامب لصناعة اختراق استثنائي يُحسب له في هذا التوقيت الحرج
لكن الأكثر أهمية في هذه الخطوة هو التبعات: وقف مؤقت لإطلاق النار في غزة ..وإمكانية تدفق المساعدات الإنسانية رغماً عن موقف ومعارضة إسرائيل ..ما يضع نتنياهو في موقف دفاعي..ويُربك قواعد اللعبة القديمة ..التي كانت تل أبيب تتحكم فيها بالكامل .. هذا التطور يمثل تحولًا في العقيدة الأميركية تجاه الفاعلين غير التقليديين في المنطقة ..ويؤكد أن إدارة ترامب الحالية تتحرك بعيدًا عن قيود المؤسسات التقليدية ..وتركّز على النتائج لا على المسارات
السودان والبحر الأحمر.. الورقة التي قد تعيد تشكيل التوازنات
في خضم هذه التحولات ، يبرز السودان كلاعب إقليمي لا يمكن تجاوزه . فالتصعيد الأخير في الشرق وسواحل البحر الأحمر، بما في ذلك استخدام الطائرات المسيّرة الإماراتية..لم يعد يُقرأ كتحرك استخباراتي أو لوجستي فقط..بل كمحاولة للضغط على الحكومة السودانية ودفعها نحو خيارات تتنافى مع سيادتها
لكن ما لا يدركه كثيرون هو أن السعودية ومصر وقطر، تعمل بهدوء وتنسيق مع بورتسودان لصياغة موقف مشترك يُطرح ضمن أجندة زيارة ترامب . الرياض تدرك أن أي تهديد لوحدة السودان سينعكس على البحر الأحمر وباب المندب واليمن ..وقد يعيد تشكيل خارطة المصالح الإقليمية بالكامل
وبالتالي..لم يعد دعم الحكومة السودانية خيارًا دبلوماسيًا ..بل ضرورة استراتيجية . الدول العربية الثلاث ترى في الحكومة الحالية الحصن الأخير أمام فوضى المليشيات العابرة للحدود..المدعومة من الخارج..والتي تستهدف الموانئ ..وخطوط الإمداد..والسيادة الوطنية
هل نشهد ضغطًا امريكياً على الإمارات؟
في هذا السياق ..يُطرح السؤال: هل تكون زيارة ترامب للسعودية وقطر فرصة لممارسة ضغط على الإمارات ..لوقف دعمها للمليشيات التي تهدد وحدة السودان؟ التحليل الأقرب للواقع يُشير إلى أن هذا ممكن، بل راجح ..إذا ما نجح التنسيق الرباعي بين بورتسودان والرياض والدوحة والقاهرة في تقديم رؤية موحدة
فالسعودية ترى أمن البحر الأحمر جزءًا من أمنها الاستراتيجي . وقطر تنظر إلى السودان كحليف محتمل في إعادة هندسة الأمن الإقليمي . أما مصر التي تربطها بالسودان علاقة وجودية .. فقد باتت تدرك أن أي انفجار في السودان سيتحول تلقائيًا إلى تهديد مباشر لأمنها القومي
المعطيات الحالية تشير إلى أن تصورًا موحدًا يتم إعداده خلف الكواليس يتضمن: وقف دعم الجماعات المسلحة تأمين البحر الأحمر ..ودعم استقرار السودان كجزء لا يتجزأ من الأمن الإقليمي والدولي
ختامًا: السودان ليس تفصيلًا.. بل مفتاح التوازن القادم
من يظن أن ملف السودان مجرد تفصيل في زيارة ترامب عليه أن يُعيد حساباته . فالسودان اليوم هو الخاصرة الرخوة التي يريد البعض اختراقها ..وهو في الوقت ذاته نقطة التوازن التي تسعى قوى إقليمية لإعادة تثبيتها
لقد تحوّلت منطقة البحر الأحمر من هامش جغرافي إلى عقدة استراتيجية تتقاطع فيها الملاحة الدولية..والطموحات الجيوسياسية..والمعارك بالوكالة . وفي هذا المشهد المتداخل..لم تعد الخرطوم مجرّد عاصمة منكوبة بالحرب ..بل بوابة لتوازنات قادمة..وشريك لا يمكن تجاوزه في صياغة أمن البحر الأحمر والمنطقة بأسرها
ومن يتجاهل السودان اليوم..سيجده غدًا يتصدر المشهد..إما كحليف استراتيجي أو كشوكة في خاصرة من حاولوا استضعافه.