
جدل التمثال.. والتبَلُّد الإبداعي
عبد الله بشير
استلهمت مجموعة من النشطاء لحظة العناق بين أحد الجنود العائدين ووالدته، فأقاموا “تمثال” قرب النيل بأمدرمان يجسد تلك اللفتة الإنسانية.. تعلّل هؤلاء بأنهم أرادوا القيام بفعل يخلّد وحدة الشعب والجيش، “ويصوغ من تلاحمهم درعاً لا تخترقه العواصف”.. أراد هؤلاء التعبير عن الوفاء لكنهم أخطأوا في وسيلة التعبير عن ذلك..
على إثر ذلك اشتعلت الميديا بالإنتقادات للفكرة المنفذة واعتبروها فعلا مجرما من ناحية دينية، من خلال حرمة صنع الأصنام والتماثيل.. والبعض انتقد تبديد الأموال في هذا الصنيع، ويرون أنه كان الأولى أن توجه لإغاثة آلاف النازحين وعلاج الجرحى وتوفير الدواء للمحتاجين..
وطرح الرأي العام أسئلة عن من صاحب هذه الفكرة.. ومن موّلها؟.. ومن وافق على تنفيذها من سلطات ولاية الخرطوم؟..
لو كان أصحاب التمثال ومن صدّقوا لهم بنصبه يقرأون التاريخ القريب لتذكروا واقعة إقامة تمثال الشهيد “عبد العظيم” باعتباره أحد أيقونات ثورة ديسمبر، وما تبعها من ردود فعل عنيفة انتهت إلى تحطيم هذا التمثال، رغم أن من أقاموه كانوا الآمرين والناهين في الشارع..
في ظني أن المسؤولية تقع على سلطات ولاية الخرطوم في التصديق بمثل هذا الفعل دون أن يتدبروا عواقبه، وهي من عليها تصحيح هذا الخطأ بإزالة التمثال أولا.. والتحقيق في كيفية التصديق لمثل هذا الفعل ثانيا.. وتقديم من قام بذلك للمساءلة ثالثا، وعرض نتائج التحقيق للرأي العام الذي مسه هذا الفعل المستفز رابعا..
هذه الحادثة تفتح من جهة أخرى ملف التجميل في ولاية الخرطوم.. ومدى امتلاك الجهات المختصة لعقلية جمالية إبداعية تملك رؤية مستقبلية تعيد الوجه الحضاري للأحياء والأسواق.. ولها القدرة على تحويل الخراب إلى مشاهد تنطق ابداعا..
غاب العمل والرؤية الأبداعية المصاحبة لإعادة الإعمار.. وظلت جداريات الفنان التشكيلي عثمان عوض الله في الشوارع والأسواق بكرري اسثناء من حالة التبلد الإبداعي الرسمي في ولاية الخرطوم..
بنظرة عامة فقد ظل برج كورنثيا يمثل رمزية السودان وعاصمته خلال السنوات الماضية “لم تكن أهرامات البجراوية او جبل البركل الدالة على الحضارة التليدة”..
مستقبلا يمكن للدولة أن تستعين بالمبدعين لا الموظفين ومشاورتهم في أقامة رمز بارز يعبر عن ملحمة الكرامة السودانية التي صدت أسوأ عدوان في التاريخ خلف عشرات الآلاف من الشهداء وحاول محو أرث امة السودان، نحتاج إلى أعمال تعبر عن ذلك بما يحترم القيم السودانيين، تمثل معلما وطنيا وجاذبا سياحيا يدر على الدولة المال، فرنسا حولت برج إيفل من كومة حديد إلى جاذب سياحي من الدرجة الأولى وكذلك “قوس النصر” على ساحة شارل ديغو بباريس، ومن الامثلة القريبة منا جغرافيا اهرامات الجيزة في مصر..
واستعير من الإعلامي د. الحاج أبو عاقلة تعبيره في أحد التقارير عن فن الجداريات، بأنه “مُحاوَلةٌ لإعادةِ ترميمِ المَعنوياتِ قبلَ الجُدرانِ، ورسمِ مُستقبلٍ تتألَّقُ فيه ألوانُ الحياةِ مُجدَّدًا، فالفنُّ — كما يقولُ أهلُه — هو الطَّريقُ الأقصرُ إلى قلوبِ البَشرِ، وهو الصَّوتُ الذي لا يُقهرُ حينَ تَصمُتُ البنادقُ







