
تجتهد النخب في الحديث عن الانتقال الديمقراطي رغم أن ذلك في الحالة السودانية لم يعد ممكناً كما كان قبل الحرب. فما نشهده الآن ليس فقط تعثراً سياسياً، بل انهياراً شبه كامل لفكرة الدولة نفسها. التهديد الذي يواجه البلاد لم يعد محصوراً في نزاع مسلح أو انقسام سياسي، بل تجاوز ذلك إلى تفكك النسيج المجتمعي، وضياع البوصلة الوطنية وتآكل الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة التي تحاول أن تظل متماسكة رغم التحديات.
في هذا الواقع تبدو الدعوة إلى “صناعة دكتاتور وطني” وكأنها خروج على القيم السياسية المتعارف عليها، وربما تبدو للبعض وكأنها خطوة للخلف في زمن يبحث فيه العالم عن التعددية والديمقراطية والحكم المدني.
لكن التاريخ لا يتقدم دائماً وفق النوايا المثالية. أحياناً تتطلب اللحظة انحرافاً عن الخط المستقيم، لصالح إنقاذ البنيان كله من السقوط. نحن لا نتحدث عن طاغية يبطش، ولا عن عسكري ياتي بانقلاب ، بل عن قيادة مركزية قوية، واضحة الرؤية محكومة بزمن معلوم، وصلاحيات مدروسة، ومشروع وطني جامع. قيادة تفرض القانون، تبسط الأمن، توحّد الناس ، وتؤسس لما بعدها من استقرار وتداول سلمي للسلطة.
حتى الفلاسفة الذين كتبوا نظريات الحرية والعقد الاجتماعي لم ينكروا ضرورة القوة في لحظات الخطر. جان جاك روسو، أحد أعمدة الفكر السياسي الحديث، كتب: “قد تقتضي الضرورة أحياناً أن يُعهد بالسلطة إلى شخص واحد، عندما يكون أمن الشعب مهدداً.” وهذا ما نحن بصدده: تهديد وجودي، يتطلب إدارة استثنائية. لسنا بحاجة إلى ادارات منقسمة ، ولا إلى تحالفات هشة. نحن بحاجة إلى سلطة تتحدث بقرار واحد، وتمتلك الجرأة على الفعل، وتحتكم إلى منطق الإنقاذ والحكمة لا منطق التوازنات الحزبية.
في تجارب العالم، نجد سابقة ملهمة تدعم هذه الفكرة دون أن تجرّنا إلى الاستبداد الأعمى الذي يخشاه الناس. سنغافورة في ستينيات القرن الماضي كانت بلداً هشاً، صغيراً منهكاً بالصراعات العرقية، وعديم الموارد. كان بإمكانها أن تسقط في فخ الفوضى إلى الأبد، لولا أن نهض بها رجل واحد: “لي كوان يو” . حكم بقبضة صارمة، نعم، لكنه كان يحمل مشروعاً وطنيًا واضحاً لإعادة بناء الدولة.
لم يسعَ للبقاء الأبدي في السلطة، بل سعى لصناعة نموذج. وضع خطة، وحدد أعداء التقدم والنهضة : الفساد، التسيّب، الانقسام، وبنى مؤسسات حديثة، ورفع من قيمة التعليم والإنجاز والكفاءة. بعد سنوات، أصبح اسم سنغافورة مرادفاً للمعجزة الاقتصادية والانضباط الإداري والهوية الجامعة، رغم أنها في بداياتها كانت أشبه بذات المرحلة التي نعيشها الآن.
لسنا مطالبين باستيراد هذه التجربة كما هي، لكن مطالبين أن نستلهم روحها. نحن بحاجة إلى قائد من هذا الطراز: وطني، عقلاني، جريء، يفرض القانون بعدل، ولا يخشى اتخاذ القرار. أن يقود لثلاثة أعوام، لا أكثر، يهيئ خلالها الأرضية لبناء الدولة، لا لدوام سلطته، ثم ينسحب كما جاء، دون هتاف أو تمجيد، بل باحترام الشعب له والاعتراف بدوره. ومنذ اليوم الأول، يجب أن تُبنى آليات المحاسبة، والضمانات، وخارطة الانتقال، حتى لا ينزلق السودان مجدداً إلى مستنقع “ما أريكم إلا ما أرى”.
قد يتساءل البعض: أليس ما نقترحه الآن تكراراً لما يُمارس فعلاً عبر المجلس السيادي أو القيادة العسكرية الحالية؟ والحقيقة أن ما نشهده اليوم هو إدارة جماعية استطاعت، رغم كل التحديات، أن تحافظ على وجود الدولة في وجه حرب كانت تستهدف كيانها السياسي والجغرافي والاجتماعي. وهذه، في حد ذاتها، ليست مهمة يسيرة في ظل التهديد الوجودي الذي كان يستهدف كيان الدولة .
لكن ما تحتاجه هذه القيادة الآن الدعم الكامل في سبيل قبضة أمنية حاكمة ومشروع وطني جامع، واضح المعالم، يستند إلى الإرادة السياسية لا ردود الأفعال، ويخاطب الداخل قبل الخارج.
وهنا أعني رأس الدولة الحالي، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، هو من قدّر له أن يتقدم لتحمّل هذه المهمة التاريخية، فإننا نخاطبه لا بصفته العسكرية، بل بصفته الوطنية. نقول له: إن أردت أن تكون، كن مشروعاً لا شخصاً. التاريخ لا يصنعه من يصل إلى السلطة، بل من يعرف متى يستخدمها ومتى يضعها جانباً.
السودان لا يحتاج إلى من يحكمه، بل إلى من يقوده؛ لا إلى من يُطيل الأزمة، بل إلى من يختصر آلامها. كن دكتاتوراً إن لزم الأمر، لكن بالمعنى الذي فهمه “لي كوان يو” ، لا كما مارسه الطغاة في تاريخنا. احكم بشجاعة، لا ببطش. اضرب على يد الفساد، لا على ظهر المختلف. واجعل من نفسك جسراً لا سوراً. وإذا مضت الثلاثة أعوام، لا تنتظر أن يطالبك الناس بالرحيل، بل فاجئهم بالانصراف من تلقاء نفسك… تلك اللحظة وحدها ستخلّد اسمك، لا في قائمة السلطة، بل في ضمير الأمة ودفتر التاريخ.
في #وجه_الحقيقة لسنا في مقام الترويج للديكتاتورية، بل نُسمي الأمور كما هي: إن البلاد في مرحلة تتطلب قبضة تمسك لا تفتك، عقلية تبني لا تنتقم، قيادة تتحدث لغة الواجب لا لغة المجد الشخصي. هي دعوة مرّة بنظرية الحريات ، نعم، لكنها قد تكون العلاج الأخير قبل الموت السياسي الكامل الذي لا وريث له غير التباكي علي وطنا بلا مشروع .اذا فلنصنعه… دكتاتوراً وطنياً بثلاثة أعوام ، لا أكثر. ليضعنا على عتبة الدولة التي نستحق.
دمتم بخير وعافية