رأي

قرار عودة الوزارات للخرطوم: خطوة للأمام.. لكن بأي ثمن؟

عبد الله بشير

في خطوة اعتُبرت استجابة جزئية لمطالب إعادة الحياة الطبيعية لمؤسسات الدولة، أصدر مجلس الوزراء مؤخراً قراراً ينص على عودة الوزارات من بورتسودان إلى مقارها الأصلية في ولاية الخرطوم. لكن المفاجأة الكبرى لم تكمن في قرار العودة ذاته، بل في التفاصيل الدقيقة التي رافقت القرار: فالعودة لن تشمل سوى نفس عدد الموظفين الذين كانوا يعملون في بورتسودان، مع استبعاد الآلاف الآخرين الذين ظلوا في مقارهم الأصلية أو عُلقوا خارج الخدمة الفعلية.

قرار بوجهين: عودة أم انتقاء؟

يعتبر القرار خطوة رمزية نحو تطبيع الأوضاع الإدارية، ولكنه في الوقت نفسه يثير أسئلة محرجة حول العدالة والشفافية في إدارة الملف الحكومي. فالانتقائية في اختيار من يعود ومن يبقى تفتقر إلى معايير معلنة، مما يخلق بيئة من الغموض والريبة داخل الأجهزة الحكومية. لماذا يتم تفضيل موظفين على آخرين؟ وما هي الضوابط الموضوعية التي تحكم هذه العملية؟

كلمة السر خلف القرار

يجب أن نضع الأصابع على الجروح النازفة؛ فالمعلومات المتداولة والواقع المشاهد يؤكدان أن خلف هذا الإصرار على العمل بطواقم محدودة تقبع “حوافز مليارية” استثنائية يستأثر بها هؤلاء الموظفون المختارون تحت مسمى الإعاشة وأن عودة جميع الموظفين تعني بالضرورة العودة إلى هيكل الرواتب الطبيعي وإيقاف هذا النزيف المالي، وهو أمر يبدو أنه لا يروق لمن اعتادوا على هذه المخصصات الضخمة.

ويطرح هذا السيناريو سؤالاً صادماً: هل تعطل الدولة وتُعطل مصالح المواطنين من أجل الحفاظ على امتيازات مالية لفئة قليلة؟ في وقت تعاني فيه الخزينة العامة من ضغوط هائلة، وتتأرجح فيه الأوضاع المعيشية للمواطن بين الصعوبة والخطورة، يصبح من غير المقبول إبقاء مثل هذه الممارسات غير المنضبطة.

ذريعة المقار..

يُحسب للقرار محاولة تقديم مبرر “لوجستي” يتمثل في عدم توفر مقار استيعابية لجميع الموظفين. لكن هذا العذر ينهار عند النظر إلى البدائل المنطقية المتاحة. فهنالك مقار وزارات في مناطق آمنة لم تتضرر بالقدر الذي يمنع ممارسة العمل منها، وكان الأوجه أن تُوجه الأموال التي تُهدر باسم الإعاشة إلى تأهيل المقار التي يحتاج بعضها لصيانة طفيفة. إن الإصرار على مقار بديلة لا تفي باستيعاب جميع الموظفين يبدو متعمدا، فالدولة التي تحترم مواطنيها يمكن أن تدير شؤونها من أبسط المقار في سبيل خدمة الشعب، لا أن تنتظر “الرفاهية” لتبدأ العمل.

من المستفيد الحقيقي؟

يُخشى أن يكون القرار الحالي، عن غير قصد، يخدم أجندات “الخلايا النائمة” التي تسعى إلى إبقاء الدولة في حالة شلل جزئي ويعتبر نجاح باهر لها يضمن استمرار غياب الدولة وإضعاف هيبتها أمام المواطن الذي ينتظر عودة الخدمات لا عودة الأسماء. فتعطيل مؤسسة حكومية عن عملها الكامل، مع بقاء هياكلها شكلية، يُضعف سيادة الدولة ويفتح الباب أمام التأثيرات الخارجية وتفشي الفساد الإداري.

الضرر المؤسسي والاجتماعي

إن استبعاد الغالبية العظمى من الموظفين لا يضر بالعمل الإداري فحسب، بل يضرب النسيج الاجتماعي والمهني للخدمة المدنية، ويخلق حالة من السخط العام لدى آلاف الأسر التي فقدت مصدر دخلها أو استقرارها الوظيفي، بينما ترى زملاءها يتمتعون بامتيازات خرافية في بورتسودان أو في “المكاتب المختصرة” بالخرطوم.

خاتمة

إننا نطالب مجلس الوزراء بمراجعة فورية لهذا القرار الشائه. العودة يجب أن تكون شاملة، والعمل يجب أن يُستأنف بكامل القوى البشرية، والحوافز المليارية يجب أن توقف لتذهب إلى تعمير مكاتب الدولة المنهوبة. إن الوطن في هذه المرحلة يحتاج إلى “جيش مدني” كامل خلف جيشه العسكري، وليس إلى “موظفي اعاشة يقتسمون كعكة الحوافز في مكاتب مغلقة”.

المواطنون يتوقعون قرارات جريئة تضع المصلحة العامة فوق الامتيازات الخاصة، وتعيد الثقة في قدرة الدولة على إدارة نفسها بنزاهة وشفافية.. فهل يكون القرار القادم أكثر شمولاً وأكثر إنصافاً؟..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى