رأي

لماذا حظي انهيار “ترسين” بتعاطف عالمي فاق مأساة الفاشر المستمرة؟

عبد الله بشير

انشغل العالم بخبر حادثة الانهيار الجبلي في ترسين بمنطقة جبل مرة، والتي أودت بحياة أكثر من ألف شخص دفعة واحدة، وتصدّر عناوين الإعلام الدولي. بدا التعاطف الإنساني واسعًا وسريعًا، وتدفقت بيانات التضامن من حكومات ومنظمات. لكن: لماذا نال هذا الحادث المفاجئ اهتمامًا عالميًا يفوق، أو على الأقل يوازي، مأساة إنسانية كبرى تحدث في الفاشر والتي استمرت لأكثر من عامين، حيث يعيش مئات الآلاف تحت الحصار والجوع والتهجير والموت البطيء؟

أولاً: شكل خبر الانهيار الجبلي كارثة طبيعية مفاجئة مقابل المأساة المزمنة، فالأولى تحرّك مشاعر التعاطف بسرعة لأنها تضرب الناس بغتة ودون مقدمات، وتُنتج صورًا صادمة يمكن اختزالها في رقم واحد أو مشهد واحد. أما المآسي الممتدة الناتجة عن الحروب، مثل ما يحدث في الفاشر، فهي تتطور ببطء، وتستهلك نفس الضحايا على مدى شهور. هذا البطء يجعل الكارثة أقل إثارة للصدمة الإعلامية، على الرغم من أنها أكثر قسوة من حيث الأثر الإنساني الطويل الأمد.

ثانيًا: الحياد الأخلاقي،

ففي حين وقوع كارثة طبيعية، لا يُلام طرف بعينه، ولا يدخل التعاطف معها في حسابات سياسية معقّدة. لهذا يسهل على الدول والمنظمات وحتى الأفراد التعبير عن تضامنهم بلا خوف من الاتهام بالانحياز. أما في حالة الفاشر، فالمعاناة مرتبطة بصراع مسلح داخلي وإقليمي، ومجرد الإشارة إلى التضامن قد تُفسَّر دعمًا لأحد الأطراف، ما يخلق ترددًا دوليًا وتعتيمًا إعلاميًا.

ثالثًا: الإعلام وقوة الصورة.. معروف أن الإعلام العالمي يبحث دائمًا عن القصص التي يمكن أن “تُروى” بسرعة وتُترجم بسهولة إلى عناوين وصور. مشهد انهيار جبلي يحصد أرواح ألف شخص يُقدَّم كقصة إنسانية خالصة يسهل نقلها، بينما أوضاع الفاشر شديدة التعقيد: حصار طويل، نزوح متواصل، قصف متقطع، أمراض وجوع. صعوبة اختزال هذه التعقيدات في قصة واحدة تقلل من قوة وصولها إلى الرأي العام.

رابعًا: الأرقام والصدمة

الألف ضحية دفعة واحدة رقم ضخم يخلق صدمة فورية، حتى لو كان في منطقة نائية. بينما أعداد الضحايا في الفاشر، رغم أنها بالآلاف أيضًا، تأتي متفرقة وعلى فترات. هذا التدرج، على قسوته، لا يثير الصدمة نفسها في ذهن المتابع البعيد.

المفارقة المؤلمة أن العالم كثيرًا ما يتعاطف أكثر مع “الموت السريع” الناتج عن كارثة طبيعية، مقارنة بـ”الموت البطيء” الناتج عن الحروب والصراعات. مأساة ترسين أظهرت وجهًا مأساويًا للطبيعة، بينما مأساة الفاشر تُظهر الوجه القاسي لصمت العالم أمام معاناة مستمرة. ولعل السؤال الحقيقي الذي ينبغي أن يُطرح: كيف يمكن تحويل الاهتمام العابر بالكوارث الطبيعية إلى التزام إنساني أعمق تجاه المآسي المزمنة التي تصنعها الحروب والإهمال السياسي؟

كيف يمكن استثمار الدروس من حادثة ترسين (التي أخذت تغطية واسعة) لإعادة تسليط الضوء على مأساة الفاشر؟..

الإجابة على مستويين:

عملي (استراتيجيات إعلامية) ونظري (منظور علوم الاتصال).

🔹أولاً: كيف يمكن للإعلام أن يجذب اهتمامًا أكبر لمأساة الفاشر؟

1. التأطير (Framing):

في ترسين، الإعلام ركّز على صورة واحدة: انهيار – 1000 قتيل دفعة واحدة.

في الفاشر، يمكن أن يركّز الإعلام على صور وروايات إنسانية مختزلة ومباشرة: أم تفقد أطفالها بسبب الجوع، مستشفى بلا أدوية يموت فيه العشرات يوميًا. هذا الاختزال يسهّل على الجمهور العالمي فهم المأساة بدلًا من عرضها كـ”حرب معقّدة”.

2. الشخصنة (Humanization):

بدلًا من الحديث عن “حصار الفاشر” بشكل مجرد، التركيز على قصص فردية وأسماء وأوجه، مثلما فعل الإعلام مع ضحايا ترسين الذين صُوِّروا كضحايا أبرياء.

3. الرمزية (Symbolism):

البحث عن صورة أو حدث رمزي قوي يمكن أن يُختصر فيه المعنى (كما في ترسين: صورة جبل منهار + جثث جماعية).. في الفاشر، يمكن أن تكون صور الأطفال المصابين بسوء التغذية، أو صفوف الناس على المخابز الفارغة، أو مقابر جماعية.

4. استخدام الأرقام والصدمة:

الإعلام في ترسين أبرز “1000 قتيل دفعة واحدة”…

في الفاشر يمكن صياغة الأرقام بشكل يخلق الصدمة: يموت طفل كل ساعة من الجوع/القصف/غياب الدواء.

5. منصات التواصل الاجتماعي:

الحملات الرقمية يمكن أن تحوّل مأساة الفاشر إلى وسم عالمي (كما حدث مع كوارث أخرى)… صور قصيرة، شهادات مباشرة، وفيديوهات مؤثرة قادرة على تجاوز ضعف الاهتمام الإعلامي التقليدي.

🔹 ثانيًا: النظريات الإعلامية التي يمكن أن تفسر وتوجّه ذلك

1. نظرية وضع الأجندة (Agenda-setting):

الإعلام لا يقول للناس ماذا يفكرون، بل يقول لهم في ماذا يفكرون…

إذا ركّزت التغطية على الفاشر كما ركّزت على ترسين، سيصبح موضوعها حاضرًا في النقاش العام والسياسي.

2. نظرية التأطير الإعلامي (Framing Theory):

طريقة عرض الحدث تغيّر طريقة فهمه.

الفاشر إذا صُوِّرت كـ”حرب معقدة بين أطراف متنازعة”، سيتراجع التعاطف.

لكن إذا صُوِّرت كـ”مأساة إنسانية لمدنيين أبرياء محاصرين يموتون جوعًا”، فإن الاستجابة ستكون أكبر.

3. نظرية الاستخدامات والإشباعات (Uses and Gratification):

الجمهور يبحث عن قصص تثير العاطفة وتُشبع حاجته للمعنى الإنساني.

تقديم قصص مأساوية شخصية من الفاشر سيُشبع هذه الحاجة ويجذب المتابعة.

4. نظرية الاعتماد على وسائل الإعلام (Media Dependency Theory):

في الأزمات والكوارث، يعتمد الناس على الإعلام لفهم ما يجري.

إذا ركّز الإعلام المحلي والدولي على الفاشر، سيضطر صناع القرار بدورهم إلى أخذها بجدية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى