
“متلازمة اللص”… حين يتحول الذنب إلى عدوان
د. محمد إبراهيم عبد الرحمن
في دهاليز النفس البشرية، حيث تتشابك القيم بالرغبات، والضمير بالسلطة، تنشأ ظواهر سلوكية معقدة لا نجد لها توصيفًا دقيقًا في القواميس الطبية، لكنها تفرض حضورها في الحياة اليومية. من هذه الظواهر ما يمكن تسميته “متلازمة اللص”—وهي ليست تشخيصًا نفسيًا رسميًا، بل توصيف لحالة يختلط فيها الشعور بالذنب مع آليات دفاعية لاشعورية، تترجم في صورة عدوانية غير مبررة تجاه الضحية.
جوهر المتلازمة: ذنب لا يُقال، لكنه يُفضَح
حين يستولي الإنسان على ما لا يحق له—سواء كان شيئًا ماديًا، أو دورًا اجتماعيًا، أو مكانة معنوية—يبقى هذا الفعل محفورًا في وعيه، حتى وإن لم يعترف به.
يقول ابن حزم: “كل سريرة في القلب لها شاهد من العلن على وجه الوجه.”
فالسلوك الخارجي لا ينفصل عن الوعي الداخلي، والذنب الذي لا يُعترف به لا يموت، بل يُدفن حيًا، ليظهر لاحقًا في صورة توتر، عدوانية، أو حساسية مفرطة تجاه من تَضرر من فعل السلب.
الآليات النفسية الكامنة
تعتمد هذه الحالة على عدة آليات دفاعية أساسية، نلخصها فيما يلي:
1. الإسقاط (Projection):
حيث ينسب الشخص مشاعره السلبية أو ذنوبه إلى الآخرين.
مثال: يرى أن الضحية “حاقدة” أو “ناقدة”، بينما هو من يشعر بالذنب في داخله.
2. التنافر المعرفي (Cognitive Dissonance):
عندما تتعارض الأفعال مع المبادئ، فيلجأ العقل إلى اختراع تبريرات تقلل من حدة التناقض، مثل:
“لو لم أقم بذلك، لكان الوضع أسوأ.”
3. العدوان الدفاعي:
يظهر العدوان هنا كدرع نفسي: الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع عن الذات المذنبة، لا عن النفس البريئة.
بُعد قرآني: “بل الإنسان على نفسه بصيرة”
في سورة القيامة، يصف الله النفس البشرية بقوله:
“بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره” (الآيتان 14-15)
فحتى وإن حاول الشخص تبرير أفعاله، يظل الضمير شاهدًا داخليًا لا يُكذَّب، يُترجم في تصرفات لا واعية تكشف المستور.
حديث نبوي: “الإثم ما حاك في نفسك…”
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطّلع عليه الناس”
رواه مسلم.
وهذا يُظهر أن الذنب يُدرك داخليًا قبل أي حُكم خارجي، وهذا الإدراك هو ما يسبب التوتر العدواني في متلازمة اللص.
البُعد الاجتماعي والخطر البنيوي
حين يُبتلى المجتمع بشخصية متسلطة تعاني من “متلازمة اللص”، فإنها تصبح مصدر تهديد خفي، خاصة إذا كانت في موقع سلطة.
فهي لا تكتفي بإنكار الذنب، بل تسعى إلى إسكات كل صوت يُذكّرها به—ليس بالرد المنطقي، بل بالإقصاء أو التشويه.
يقول الشاعر:
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ … فهي الشهادة لي بأني كاملُ
لكن في بيئة كهذه، لا ينجو “الكامل”، بل يصبح هدفًا للهجوم.
نظرة فلسفية: الضمير بين الصمت والانتقام
يقول جان جاك روسو: “الضمير لا يُشترى ولا يُباع، لكنه قد يختبئ.”
غير أن الاختباء لا يعني الموت.
الذنب الذي لا يجد اعترافًا، يبحث عن منفذ آخر: إمّا في صورة وساوس، أو قلق دائم، أو عداء متصاعد نحو “مرآة الجريمة”—أي من يذكرنا بما فعلناه.
الاعتراف لا الاتهام
“متلازمة اللص” ليست مرضًا نفسيًا، لكنها عرض داخلي لأزمة أخلاقية.
المصالحة الحقيقية لا تبدأ بإسكات الآخر، بل بالإنصات إلى صوت الضمير.
كما قال المتنبي:
وإذا كانت النفوس كبارًا … تعبت في مرادها الأجسامُ
لكن النفوس الصغيرة، إن لم تواجه حقيقتها، تتعب في الدفاع عن وهمها.