رأي

ثلاثية الخلق والتنوع والتعقيد: خواطر كونية في ضوء أسماء الله الحسنى

د. محمد قرشي عباس

{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡخَـٰلِقُ ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَاۤءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ یُسَبِّحُ لَهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ } [سُورَةُ الحَشۡرِ: ٢٤]

في تأملنا لمسار الوجود، من لحظة الانفجار الكوني الأولى حتى ظهور العقل الواعي، يبدو الزمن أكثر من مجرد عقرب يدور أو تتابع للحظات. فالزمن، في جوهره الفيزيائي والروحي، هو السهم الذي يخترق الصمت البدئي ليفتح باب الإمكانات. ومع كل خطوة يخطوها هذا السهم، تتفتح أزهار التنوع، وتتراكب طبقات التعقيد، كما لو أن الزمن نفسه حاملٌ لرسالةٍ تُتلى عبر التحول لا عبر الكلمات.

الخالق: سهم الزمان وشرط الانطلاق

بحسب الفيزياء الحديثة، فإن الكون بدأ من حالة “نظامية عالية” أو ما يُعرف بـ”الانتروبيا المنخفضة”، وهي حالة لا تفسير لها داخل قوانين الطبيعة ذاتها، بل تُفترض كـ”شرط ابتدائي” فُرض على الوجود.

هذا هو سهم الزمن في معناه الأعمق: ليس فقط اتجاهًا نحو المستقبل، بل إرادة اختيارية وضعت البذرة الأولى بدقة مدهشة، وكأنما تقول لنا: “الخلق ليس فعلًا عشوائيًا، بل هندسة مقصودة.”

في هذا السياق، يبرز الاسم “الخالق” كدالّ على تلك اللحظة المؤسسة، لحظة التعيين الأولي، حيث لم يكن بعد تنوع ولا صور، بل فقط إرادة الخلق وسهمٌ انطلق من نقطة لا تُدرك، ينسج خيط الزمن ويهيّئ المسرح لكل ما سيأتي.

الباريء: التنوع ككسر للتماثل

بعد لحظة الخلق، يبدأ الكون بالتحول، وتنفصل القوى، وتنهار التماثلات. تلك الانقسامات ليست عبثًا، بل هي ضرورة فيزيائية ووجودية لتولد الكثرة من الوحدة. في كل لحظة يكسر فيها النظام الكوني تماثلًا، يظهر نمط جديد، كأن التنوع ليس سوى أثر من آثار البرء، الاسم الذي يدل على التفعيل الابتكاري، على تحويل الفكرة الأصلية إلى احتمالات متعددة، كل واحدة منها تفتح بابًا نحو نوع جديد من الوجود.

الفيزيائيون يسمون هذا بـكسر التماثل (Symmetry Breaking)، وهي لحظة محورية في كل تحول: من ولادة الجسيمات الأولية، إلى تمايز الخلايا في الجنين، إلى انبثاق الثقافات من رحم الحضارة. وفي كل هذه المراحل، لا شيء يسير عكس سهم الزمن. بل العكس، إن التنوع يتطلب زمنًا، لأن كل اختلاف يحتاج إلى سياق، وكل تمايز لا يتشكل دفعة واحدة، بل عبر تدرج وجودي.

المصوّر: التعقيد كفنّ في التنظيم

لكن التنوع وحده لا يكفي. ما قيمة ملايين الأنواع إن لم تكن لها بنية تجمعها، ونظام يُشكّلها، ووحدة داخل الكثرة؟ هنا يتجلى اسم “المصوّر”، الذي لا يكتفي بالخلق ولا بالبرء، بل يُهندس الكيان ويمنحه صورته الخاصة.

العقل البشري، الدماغ، العين، النظام الشمسي، الخلية… كلها أمثلة على تعقيد نشأ من عناصر بسيطة، لكنها نُسجت ضمن بنى دقيقة، تحترم ما قبلها وتستثمرها. التعقيد هنا لا يعني الحيرة، بل نقطة التوازن بين النظام واللانظام، بين البساطة والثراء.

علماء الكون يشيرون إلى أن هذا التعقيد نشأ في “جيوب محلية” داخل كون يتزايد فيه التشتت (الانتروبيا). وكأن الزمن، رغم اتجاهه نحو التشتت، يسمح بوجود نقاط “استثناء”، هي أماكن تُخالف الاتجاه العام، لتُظهر معنى أعمق: أن التنظيم ليس نقيضًا للزمن، بل ثمرة من ثماره، حين تتوافر الشروط.

رؤية موحدة: من الخلق إلى الصورة

حين نربط بين الخلق، والتنوع، والتصوير، نجد أنفسنا أمام ثلاثية ليست مجرد ترتيب زمني، بل مسار كوني وروحي:

الخالق: لحظة الفطر، سهم الزمن، الشرط الأولي للوجود.

الباريء: التعدد والاختلاف، كسر التماثل، تفجير الإمكانات.

المصور: التنظيم، التشكل، تجسيد الفكرة في صورة محسوسة.

وهكذا، يصبح الزمن نفسه تجلٍ لأسماء الله الحسنى، و”عالم الملك” الذي نشاهده (ويباطنه البرزخ والملكوت عند المتصوفة)، ليس ساحةً صماء، بل مرآة تعكس أفعال الخلق المستمرة. فكل ثانية تمضي، إنما تحمل في طياتها بصمة من “الخلق”، ونَفَسًا من “البرء”، وخطًّا من “التصوير”.

تأمل أخير

هل نحن إذن شهود على عملية خلق لم تنتهِ بعد؟ هل سهم الزمن ما زال يخترق الوجود لا ليُفنيه، بل ليكمله؟ وهل التعقيد الذي نراه حولنا هو مظهر من تجليات الإرادة الإلهية المتجددة؟

إن التأمل في العلم لا يُعيق الإيمان، بل يمنحه لغةً جديدة. لغة تروي كيف أن كل تحوّل كوني، من الانفجار العظيم حتى حركة أفكارنا، إنما هو تسبيحٌ كوني، وترنيمة تُغنّيها الجسيمات والأفلاك والخلايا والنجوم.

وفي كل ذلك، لا يزال سهم الزمن ماضيًا، لا يعرف التوقف… لأنه ما زال ينقل إلينا صوت الخلق الأول.

#خواطر_قرشية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى