
أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. من خيانة الأخ إلى صناعة الأزمات… الحرب الدافئة
|من سلسلة الجسر والمورد
الخيانة التي تتحول إلى آلية لبلورة أزمات داخلية ليست ظاهرة فردية بل منظومة مؤسّسة تعمل عبر حوافز مادية وسردية ومؤسسية. في سياق السودان (٢٠١٨م –٢٠٢٣م) أُريدَت الخيانة أن تكون مدخلاً لإضعاف مؤسسات الدولة، وتصدير بيئة عدم استقرار إقليمية تستفيد منها أطراف دولية وإقليمية وذلك عبر التدرج بالشعارات من : “تسقط بس” الى “تسكت بس” . وسائل التواصل الاجتماعي عملت كوقود وتكتيك؛ أما البحر الأحمر فصار ساحة ارتدادٍ استراتيجي. نحاول من خلال التحليل أن نقدم تشخيصا للآليات والدوافع، ونضع خارطة سياسات عملية قابلة للقياس لوقف تسويق الوطن بثمن بخس وإعادة بناء حصانته المعلوماتية والمؤسّسية.
١. جوهر المشكلة — لماذا «يبيع» البعض؟ يمثل الإطار المضروب للحوافز الدافعة نحو
الخيانة بكثافتها السياسية مرتكزا يتكئ على أربعة تقاطعات هي المحركات الأساسية:
●حوافز شخصية ومادية: إمكانية الوصول إلى موارد الدولة أو صفقات اقتصادية تُحوِّل المنصب إلى مكافأة مالية فورية.
●فراغ وفساد مؤسساتي: ضعف أجهزة الرقابة والقضاء والسلوك المؤسساتي يجعل ثمن الولاء الشخصي منخفضا مقارنة بعائداته.
أجندات إيديولوجية أو قبلية: حالات يبرر فيها الفاعل خيانته باسم الولاء لقسمٍ اجتماعي أو مشروع فكري ضيّق.
●استغلال خارجي: ضمانات أو دعم خارجي (سياسي، مالي، أمني) تشجّع بعض الفاعلين على المخاطرة بخيانتهم الداخلية لقاء مكاسب إقليمية/دولية.
■النتيجة: شبكة من العلاقات التقاطعية تُحوّل موقعا صغيرا إلى منصة تأثير، وتحوّل صاحب المنصب إلى وسيط لنفوذ خارجي أحيانا ومثال ذلك في السودان من حيث النخب السياسية: قوى الحريةوالتغيير ومن جانب العسكر : قوات الدعم السريع .
٢. آليات العمل — كيف يدار «بيع الوطن» عمليا؟
المنظومة تعمل عبر تشابك- زمني- لعدة آليات :
●الإختراق الاقتصادي: منح امتيازات استثمارية، عقود إمتياز أو منح امتيازات موارد لصالح شبكات مرتبطة بالفاعل “المخيّن” ونسوق مثال : شركة أمطار ، ميناء ابو عمامة .
●الاستحواذ الإعلامي والتأطير: شراء منصات إعلامية محلية أو تمويل جيوش رقميّة تنشر سرديات تبرر التحويلات والسياسات وهنا نذكر ليس للحصر : صفحة تجمع المهنيين ، لجنة اطباء السودان على مواقع التواصل الاجتماعي .
●قنوات تمويل خلفية: تحويل موارد خارجية عبر وسطاء محليين لتمويل شبكات ولاء.
●تجريد المؤسسات من الفاعلية: تشويه أداء الأجهزة الأمنية والقضائية لخلق مبررات للتدخلات «البديلة». من خلال الدعوة لمليونيات تستدر العواطف للحشد وتقدم الفرد قربان.
●تطويع المجتمع المدني: إضعاف منظمات المجتمع المدني المستقلة أو احتواؤها بشخصيات موالية.
هذه الآليات تُدرَج داخل «حرب سردية» تقودها خوارزميات المنصات الرقمية وتُسرَّعها شبكات الدفع والاقتصاد السياسي.
٣. دور تكنولوجيا الاتصال (لا محيد عنه)
وسائل التواصل ليست مجرد قناة؛ هي بنية تحويلية تعمل عبر:
●الاستهداف الدقيق: رسائل مصممة لشرائح اجتماعية بعينها لإضعاف الثقة بالمؤسسات التقليدية.
التحويل الوجداني: تقنيات التأطير والـmemes وmicro-videos تصنع أبطالا وأشرارا بسرعة هائلة.
●تشكيل ظل معرفي: خلق «حقيقة موازية» يقبلها جمهور كبير لعدم توفر مصادر بديلة موثوقة.
●مؤسساتية التضليل: شبكات منظمة (محلية وإقليمية) تنتج وتوزع موادا “منسومة” لتشغيل «الطابور الخامس» المعلوماتي خصوصا ما بعد دخول الجيش وتطهيره للمنطقة المحررة وقد أشرنا لذلك عبر تحقيق نشر بمجلة اتجاهات الرأي العام.
■نتيجة ذلك: انخفاض تكلفة الشرعنة للخيانات السياسية وزيادة سرعة انتشارها ودوام تأثيرها.
٤. بُعد سودان ٢٠١٨م –٢٠٢٣م: عناصر ممارسة واستفادة
بملاحظة سريعة للمشهد السوداني يتضح تلاقي العوامل التالية:
●هشاشة مؤسساتية تراكمت خلال عقود؛
●سوق مفاصل استثمارية وموانئ جذبته أطراف خارجية؛
●شبكات إعلامية رقمية استُخدمت لإعادة تأطير الاحتجاجات والحشود؛
●أطراف إقليمية –بعضها خليجي– رأت في الأزمة نافذة لتعميق مواقعها الاستراتيجية عبر الدعم اللوجستي، الاستثمارات الانتقائية، والوساطات السياسية التي خلطت بين المصلحة والوساطة.
■ملاحظة: التحليل هنا يصف ديناميكيات معقّدة ولا يوجّه اتهامات ، بل يبيّن كيف تصبح الفرص الخارجية خدمة لسرديات داخلية تخدم مصالح محددة.
٥. تأثيرات إقليمية واستراتيجية على البحر الأحمر
●الارتداد الأمني من الداخل إلى البحر الأحمر واضح ومحدّد:
●تعطّل قدرة الدولة على إدارة موانئها يمهّد لظهور فاعلين بدلاء يستغلون البنى التحتية لصالح مصالحهم؛
●ازدياد مخاطر التهريب والتمويل عبر الممرات البحرية يضعف الأمن اللوجستي الإقليمي؛
●تغذية تنافس نفوذ إقليمي (استثمارات، قواعد لوجستية، شبكة علاقات) تقوّض سيادة الدولة وتحوّل الساحل إلى منصة للتنافس، ما يهدد حرية الملاحة ويزيد كلفة التجارة العالمية.
■الاستنتاج: أمن البحر الأحمر لم يعد قضية فنية بحتة بل انعكاس مباشر لاستقرار السيادة داخل الدول المطلة عليه.
٦. سيناريوهات مستقبلية استراتيجية نرسمها عبر ثلاثة مسارات
■الاستمرار الملتهم (الأسوأ): استمرار الخيانات المنظمة، تفاقم نفوذ خارجي انتقائي، تفكك مؤسساتي ممتد، وتحول السودان إلى فسيفساء مناطق نفوذ.
■الاستقرار النخبوّي الهشّ: توافقات إقليمية–محلية مؤقتة تحفظ حركة التجارة لكن من دون حل جذري، ما يخلّف استقرارًا هشًّا وقابلًا للانهيار.
■إعادة بناء شاملة (المطلوب): مسار داخلي–إقليمي متناسق يقوم على شروط شفافية، نزع تبعية الموارد، إصلاح المؤسسات، وحملة معلوماتية وطنية تُعيد للوعي العام قيم الثقة والولاء الجماعي.
٧. خارطة سياسات عملية ومقاييس نجاح قابلة للتطبيق عبر رؤية الجسر والمرد :
١/ عاجل (١– ٦ أشهر)
●إطلاق مجلس وطني للأمن المعلوماتي يضم مؤسسات حكومية ومجتمع مدني وخبراء مستقلين؛
●مهمة المجلس: مراقبة حملات التضليل، وصياغة ردود منهجية.
■مقياس النجاح:
● انخفاض نسبة انتشار السرديات المضللة المروّجة محليًا بنسبة مقبولة خلال ٣ أشهر.
●فرض شفافية على عقود الموانئ والاستثمارات الاستراتيجية (إفصاح ملزم، مراجعة طرف ثالث).
■مقياس النجاح: نشر قوائم العقود والمستثمرين ووقف أي صفقة غير مُعلنة.
٢/متوسط الأمد (٦–١٨ شهرا)
●برنامج بناء قدرات للمؤسسات القضائية والرقابية (مكافحة الفساد، مراقبة التدفقات المالية العابرة للحدود).
●مقياس النجاح: استحداث آليات تتبّع التدفقات وإحالة قضايا مُصنفة للعدالة.
●حملة وطنية للثقافة الرقمية ومحو التضليل تضم المدارس، الإعلام المحلي، ومنصات المجتمع المدني.
■مقياس النجاح: ارتفاع مؤشر الثقة بالمصادر المحلية الموثوقة وظهور تغير سلوكي لدى شرائح مستهدفة.
٣/طويل الأمد (بعد ١٨ شهرا)
●إصلاحات مؤسسية شاملة: قانون تمويل الأحزاب، مراقبة تمويل المنصات الإعلامية، استقلالية القضاء.
●مؤشر حوكمة مرتفع وتحسن ملحوظ في تصنيف الشفافية والإدارة العامة.
●آليات إقليمية لحماية الممرات البحرية: ●اتفاقيات تعاون للحد من تهريب الأسلحة، مشاركة استخباراتية، وحوكمة موانئ مشتركة.
■مقياس النجاح: انخفاض مؤشرات الحوادث البحرية المشبوهة وتقارير التهريب.
٨. توصيات عملية للجهات الفاعلة
للسلطة الوطنية وفق رؤية الجسر والمورد:
●أن نبدأ بمعايير واضحة للعقود والصفقات، وننشئ هيئة مستقلة للتحقيق في تعارض المصالح.
للمجتمع المدني والإعلام المستقل: توحيد أدوات التحقق ونشر «معلومة مضادة» بسرعة ومصداقية.
●للجيران والدول الإقليمية: نعيد العلاقات وفق لغة الشفافية والمصالح المشتركة؛ الوساطة يجب أن تصاحبها ضمانات بعدم الاستحواذ الاقتصادي أو العسكري.
#أصل_القضية : بيع الوطن بثمن منصب قصير الأمد هو قمار يفقد الأمة مستقبلها. الخيانة ليست مجرد ذنب أخلاقي؛ هي عمل منظّم يستثمر هشاشة المؤسسات ويستغل الفضاء المعلوماتي ويستدرج فواعل إقليمية. الحلّ إذًا لا يكمن في ملاحقة الأفراد فحسب، بل في هدم بنية السوق التي تبيع الوطن.
* باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية