
أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. السودان يخطّ سفر علاقاته الدولية
من سلسلة الجسر والمورد
منذ أن أعلنت الدولة السودانية عن موجهات المجلس السيادي لرئيس المحكمة الدستورية بشأن إعداد دستور دائم يتفق عليه الجميع، تزامن ذلك مع أنباء عن رغبة روسية أكيدة في تنفيذ مشاريع استراتيجية في السودان تشمل قطاعات النفط والكهرباء، إلى جانب الإعلان عن زيارة مرتقبة للفريق أول عبد الفتاح البرهان إلى موسكو منتصف أكتوبر للمشاركة في القمة العربية الروسية وعقد قمة ثنائية مع الرئيس فلاديمير بوتين.
هذه المصادفات السياسية والاقتصادية ليست تتابعًا عابرًا في الأخبار، بل مؤشرات لمرحلة جديدة يعيد فيها السودان ترتيب أولوياته: إصلاحٌ من الداخل بالدستور، وانفتاحٌ نحو الخارج بالاستثمار الاستراتيجي المتوازن.
إنها لحظة فارقة يقول فيها السودان للعالم: “ها نحن نكتب سفرنا الجديد بعقولنا وإرادتنا، لا بإملاءات الآخرين.”
أولًا: من أزمة الشرعية إلى تأسيس الدستور الدائم
غياب الدستور الدائم كان أحد جذور أزمات السودان السياسية منذ الاستقلال. فقد ظلّ الانتقال بين الوثائق المؤقتة والانقلابات المتكررة سببًا في هشاشة الدولة وتآكل مؤسساتها.
التحرك الحالي للمجلس السيادي بإطلاق موجهات لصياغة دستور دائم متوافق عليه ليس إجراءً قانونيًا فحسب، بل فعلٌ تأسيسيّ يرمي إلى تثبيت العقد الاجتماعي الجديد وإعادة تعريف السلطة وتحديد مركز القرار في الدولة.
فالدستور هنا ليس نصًا جامدًا بل هو قاعدة الهوية السياسية والاقتصادية للسودان الجديد — دولة الرسالة لا الأزمة.
ثانيًا: الاستثمار الروسي… نحو توازنٍ دولي جديد
في الوقت الذي تتحرك فيه الدولة لترسيخ شرعيتها الدستورية، تتحرك روسيا نحو السودان بخطة استثمارية طموحة، أبلغت بموجبها الخرطوم أنها تمتلك مشاريع جاهزة في مجالات النفط والكهرباء، في إشارة إلى جدية موسكو في جعل السودان محورًا ضمن استراتيجيتها في البحر الأحمر والقرن الإفريقي.
وتزداد أهمية هذه الخطوة مع إعلان روسيا عن تطوير مشروع نووي في إثيوبيا، ما يعني أن موسكو تسعى لترسيخ وجود متكامل في شرق إفريقيا — حضورٌ تقني واقتصادي يمتد من أديس أبابا إلى بورتسودان.
أما زيارة البرهان المرتقبة إلى موسكو للمشاركة في القمة العربية الروسية، فتفتح الباب أمام دبلوماسية جديدة تقوم على التوازن لا الاصطفاف، وعلى التعاون التنموي لا التبعية السياسية.
> من منظور “الجسر والمورد”، فإن السودان يجب أن يدير هذا الانفتاح من موقع الندّية، بحيث تتحول كل شراكة إلى رافعة للسيادة لا وسيلة للاحتواء.
إن تحويل هذه المشاريع من مجرد وعود إلى إنجازات يتطلب إطارًا دستوريًا واضحًا يحمي مصالح السودان، ويجعل من القانون مرجعية للاستثمار لا الأهواء السياسية. فكلما كانت البيئة القانونية مستقرة، ازدادت الثقة الدولية وتدفقت رؤوس الأموال، لتصبح الدبلوماسية الاقتصادية أداة لبناء الداخل من خلال الخارج.
ثالثًا: من الدولة المأزومة إلى الدولة المبادرة
الربط بين الإصلاح الدستوري والانفتاح الاقتصادي يشير إلى أن السودان بدأ يفكر بعقل الدولة لا الحكومة.
إنها فلسفة “المبادرة لا ردّ الفعل”، وملامحها تتجسد في ثلاثة محاور:
١. التحصين الداخلي عبر الدستور الدائم والمؤسسات المستقرة.
٢. الانفتاح الخارجي المتوازن الذي يقوم على الشراكات المتعددة لا الارتهان لمحور واحد.
٣. التحول من مورد خام إلى مركز إقليمي للتكامل الاقتصادي والطاقة والنقل.
بهذه الرؤية، يصبح السودان لاعبًا إقليميًا له وزنه في معادلة الشرق والغرب، لا مجرد مساحة للمنافسة الجيوسياسية.
رابعًا: الجسر الذي يُبنى من الداخل نحو العالم
لا يمكن فصل السياسة الدستورية عن السياسة الخارجية؛ فكلتاهما تعبّران عن مشروع وطني متكامل لتثبيت الكيان السوداني على أسس الشرعية والتنمية.
الدستور يمنح الشرعية، والاستثمار يمنح الاستقرار، وكلاهما يصنع الثقة الدولية المفقودة.
> وإذا أُحسن استثمار هذه اللحظة، يمكن أن يتحول السودان إلى جسرٍ للتكامل الإفريقي العربي الآسيوي — لا مجرد ساحة نفوذ.
لكن هذا لن يتحقق إلا عبر إدارة ذكية للسيادة الوطنية، تجعل من كل تعاون خارجي خطوة نحو بناء الداخل، ومن كل مشروع دولي وسيلة لتمكين الإنسان السوداني.
خامسًا: نحو خريطة طريق سودانية للمستقبل
لضمان تماسك هذا المسار المزدوج — الدستوري والاستثماري — ينبغي أن يواكبه إصلاح مؤسسي شامل يرتكز على:
●تفعيل المحكمة الدستورية كضامن للحقوق والحريات.
●إنشاء مجلس أعلى للتخطيط الاستراتيجي ينسّق أولويات التنمية والشراكات.
●إدارة الاستثمارات الأجنبية عبر مظلة سيادية موحدة.
●تحقيق العدالة الجغرافية في توزيع المشاريع لردم الفجوة التنموية.
عندها فقط يمكن القول إن السودان بدأ كتابة سفره الجديد في العلاقات الدولية — سفر عنوانه السيادة والتوازن، ومضمونه الإصلاح والبناء، وروحه الانبعاث الوطني بعد عقود من العثرات.
#أصل_القضية
السودان اليوم على أعتاب تحول استراتيجي مزدوج:
يبني داخله بالدستور، وينفتح على العالم بالاستثمار المتوازن.
إنه لا يختار بين الشرق والغرب، بل يختار ذاته أولًا، ليصوغ علاقاته الدولية بمعيار المصلحة الوطنية.
روسيا تتحرك بخطط جاهزة في النفط والكهرباء، وتوسع حضورها الإقليمي عبر مشروعها النووي في إثيوبيا، بينما يتحرك السودان بثقة نحو موسكو ليؤكد أنه شريك لا تابع.
فالدستور هو حجر الأساس، والاستثمار هو الجسر، والمورد هو الإنسان —
وعندما تتكامل هذه الأضلاع، يكتمل مشروع “الجسر والمورد” كفلسفة سودانية جديدة تضع السيادة والتنمية في كفة واحدة.
– باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية