رأي

أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. هل أكلت الأمة أبناءها؟

|من سلسلة الجسر والمور

في كل مرة نحاول فيها فهم علّة الوطن، نكتشف أن الجرح أعمق من أن يلتئم باللوم وحده.

لسنا بحاجة إلى مزيدٍ من الخطب ولا إلى شماعاتٍ جديدة نعلّق عليها فشلنا،

بل إلى لحظة صدقٍ نواجه فيها أنفسنا بلا رتوش:

هل نحن ضحايا حكامٍ فاسدين، أم شركاء في صناعة واقعٍ مشوّهٍ برضانا وصمتنا؟

فالسودان لم يُهزم حين تغيّر الحاكم، بل حين غاب الوعي.

لم يسقط لأن الطغيان أقوى، بل لأن الضمير الجمعي استسلم لليأس،

وصار الخوف سياسة، والمجاملة مبدأ، والسكوتُ وطنًا بديلاً عن الوطن.

كم يشبه السودان قلب أمٍ أنهكها أبناؤها،

كلٌّ يدّعي حبها، وكلٌّ ينهش منها نصيبه باسم الولاء أو العِرق أو المصلحة.

فهل أكلت الأمة أبناءها، أم أن الأبناء هم من أضاعوا طريق العودة إليها؟

في كل مرة نحاول فيها فهم علّة الوطن، نقف أمام مرآة لا تعكس وجه السلطة وحدها، بل وجه المجتمع ذاته.

فالسؤال الذي ظلّ مؤجلًا، لا تقل جرأته عن خطورته:

هل أوتي السودان من قبل حكامه، أم من قبل شعبه؟

من السهل أن نلعن الفساد الإداري، ونحيل كل الكوارث إلى القصور الحكومي، ولكن الأصعب أن نعترف بأن التصدع بدأ من داخل النسيج ذاته، من لحظة استبدلنا فيها القيم بالولاءات، والحق بالرضا عن الذات، ورضينا بأنصاف الحلول كأنها خلاص.

الشعب والدولة: دائرة الاتهام المغلقة

حين تتأمل تاريخ السودان الحديث، تكتشف أن العلاقة بين الدولة والمجتمع لم تكن علاقة عقد، بل علاقة مزاج.

فالحاكم لم يُحكم بشرعية الأداء، والشعب لم يراقب بشرعية الوعي.

وما بين سلطةٍ تبرر فسادها باسم «الظروف»، وشعبٍ يبرر صمته باسم «اللقمة»، تشكّلت فجوةٌ هائلة سقط فيها المشروع الوطني.

لقد كان منطق “ما دام حقي وصلني فغيري شأنه” هو الخطيئة الكبرى التي أكلت فكرة الوطن من الداخل.

حين صمتنا عن الظلم لأنه لم يصبنا بعد، وحين صفقنا لغير الكفء لأنه “ود بلد”، وحين ساومنا على المبادئ من أجل السلامة، حينها بدأ الخراب الأخلاقي قبل أن يبدأ الانهيار السياسي.

من الفرد إلى الكيان: سقوط العقد الاجتماعي

السودان — بعمقه التاريخي وتنوعه الثقافي — لم يُهزم بمدافع الخارج، بل بتآكل الداخل.

لقد تحولت القبيلة من رابطة هوية إلى سلاح انقسام، وتحولت الطائفة من نور روحاني إلى غطاء مصلحي، وتحول المثقف إلى شاهد محايد في زمن يحتاج إلى صوتٍ مزلزل.

كلما عجزنا عن ممارسة النقد الذاتي، ازدادت أزماتنا تركيبًا، حتى صرنا كالأمم التي تصنع جلاديها ثم تبكي من قسوتهم.

إن مأساة السودان ليست في موارده التي نُهبت، بل في وعيه الذي لم يُستنهض بعد.

رؤية الجسر والمورد: من جلد الذات إلى نهضة الوعي

رؤية الجسر والمورد لا تدعو إلى جلد الذات، بل إلى استعادة الوعي.

فالنهضة لا تبدأ بخطة خمسية ولا بتمويل خارجي، بل بقرار داخلي: أن نُعيد تعريف معنى “المسؤولية”.

أن ندرك أن الوطن ليس مؤسسة تقدم خدمات، بل منظومة قيم تتطلب حراسة أخلاقية دائمة.

حين يتحول النقد إلى ممارسة يومية، وتتحول المواطنة إلى شعور بالمسؤولية لا بالانتماء فقط، سيخرج السودان من دائرة الشكوى إلى دائرة الفعل.

عندها فقط سنكسر المعادلة القديمة التي تقول إنّ “كل من صعد إلى الحكم فسد”، لأنها ببساطة ستفقد بيئتها الحاضنة.

#أصل_القضية: هل أكلت الأمة أبناءها؟

نعم، أكلتهم حين سكتت عن الظلم، وحين غسلت يدها من السياسة باسم الزهد، وحين احتقرت العمل العام كأنه رجس من عمل الدنيا.

أكلتهم حين صارت الكفاءة تُحارب، والصدق يُسخر منه، والمبدأ يُشترى بثمنٍ بخسٍ من المجاملات والمناصب.

لكن، في عمق هذا الرماد، ما زال الجمر حيًّا.

فكل أمة تستطيع أن تُعيد أبناءها إن امتلكت شجاعة الاعتراف، وإن أيقنت أن طريق الخلاص يبدأ من الذات لا من السلطة.

> إن الأمم لا تموت حين تنهزم، بل حين تفقد قدرتها على المراجعة.

والسودان، بكل أوجاعه، لم يمت بعد…

لكنه ينتظر أن يُعيد أبناءه إليه قبل أن يلتهمهم النسيان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى