رأي

أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. فاشر الصمود بين الألم والأمل

|من سلسلة الجسر والمورد

– باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية

في لحظات الوجع الجمعي، حين يختلط الغبار برائحة الأرض، يبرز سؤال الوعي من بين الأنقاض كجمرة لم تنطفئ بعد. تلك الجمرة التي تحدث عنها “أنطونيو داماسيو” في كتابه الإحساس والمعرفة والوعي حين قال إن الوعي يولد من الإحساس بالألم، لا من ترف المعرفة وحدها.

ولو تأملنا واقع السودان اليوم، وتحديدًا مدينة الفاشر، لوجدنا تجسيدًا حيًّا لهذه الفكرة. فالألم هناك لم يعد مجرد حالة شعورية، بل أصبح وعياً متقداً يربط الإنسان بأرضه، وبالسماء التي لم تنقطع صلته بها رغم كل الجراح. كأنما تعيد الفاشر صياغة الإنسان السوداني من جديد، لتقول إن المعاناة ليست هزيمة، بل مختبر للكرامة.

إن تجربة داماسيو في تحليل العلاقة بين الإحساس والعقل تضعنا أمام مشهد سوداني فريد: كيف يتحول الشعور بالعجز إلى تصميم، واليأس إلى وعي جمعي متماسك؟

الجواب في السودان لا يُكتب في المختبرات، بل يُكتب في دماء الشهداء، وصبر الأمهات، وصمود المقاتلين، ووعي الشعب الذي أدرك أن الحرية لا تُمنح وإنما تُنتزع.

وفي كل هذا، يظل الإيمان بالله هو خيط الوعي الأعمق. فحين تشتد الأزمات، يتجلى المعنى القرآني في قوله تعالى:

> “وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ.”

لكننا لا نوردها هنا للوعظ، بل للتذكير بأن الوعي السوداني المتدين بطبعه لا يفصل بين الروح والسياسة، ولا بين الإيمان والكرامة. إن الإحساس بالانتماء إلى الله هو ذاته الإحساس بالواجب تجاه الوطن — كلاهما منبع واحد، وبهما يُعاد تشكيل الوعي الجمعي الذي تتحدث عنه استراتيجية الجسر والمورد: وعي يبني، لا يثور فقط؛ يؤمن، لا يستسلم؛ ويعرف أن كل جرح هو بداية معرفة جديدة.

ولعل أجمل ما في مأساة الفاشر أنها أعادت تعريف البطولة، لا كمشهد استعراضي، بل كفعل صامت، كإصرار أمٍّ تُطعم أطفالها تحت القصف، وكجنديٍّ يحمل سلاحه بيدٍ وإيمانه بالأرض باليد الأخرى.

ذلك هو الوعي الحقيقي الذي يتحدث عنه داماسيو — وعي الإحساس بالحياة رغم الألم، وهو نفسه ما يوقظ روح الأمة حين كادت أن تغفو.

ولمن يرددون بأن الفاشر قد سقطت، نقول:

الفاشر لا تسقط، لأنها لا تُقاس بجغرافيا التراب بل بذاكرة التضحية.

الفاشر وهي تختضب بدماء الصادقين الصابرين، نادت لكل سوداني نداءً عذبًا:

“قف معي يا أخي، فهنا يُختبر معنى أن تكون سودانيًا.”

هي لا تكتب بيانًا في الهواء، بل تكتب سفرًا في التاريخ، وتغرس في كل وادٍ نبتة وعي جديدة تقول إن السودان لا يُهزم مادام قلبه ينبض بالإيمان والعزم.

فمن أراد أن يرى الوعي متجسدًا في لحمٍ ودم، فليتأمل الفاشر — هناك تتحدث الأرض بلسان الصابرين:

“إن معي ربي سيهدين.”

#أصل_القضية،،،

الفاشر اليوم ليست فقط مدينة صامدة، بل رمز لاختبار وعي الأمة السودانية بذاتها.

وحين تشرق شمسها مجددًا، سيعلم العالم أن الألم ليس النهاية، بل بداية الوعي الجديد — وعي يسطر مجد السودان ، ويرسم معالم عبور جديد عبر الجسر والمورد.

– باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى