
أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر… السودان معركة الوعي وحرب الحقيقة
من سلسلة الجسر والمورد
حين كتب جون جاي مييرشهايمر في كتابه «لماذا يكذب القادة والزعماء؟ حقيقة الكذب في السياسة الدولية»، لم يكن يتحدث فقط عن الأكاذيب بين الأمم، بل عن بنيةٍ عميقةٍ في ممارسة السلطة حين تصبح الحقيقة أداة وليست قيمة. فالكذب في السياسة ليس دوماً نقيضاً للأخلاق، بل أحياناً جزء من استراتيجيات “التحكم بالوعي”، وتلك أخطر الحروب التي يمكن أن تُشنّ على أمة.
في المشهد السوداني الراهن، لا يبدو هذا التحليل بعيداً. فالمتابع لما يدور في الساحة يلحظ ظاهرة مكرورة: حين تريد الحكومة أن تمرّر رسالةً دون أن تقولها مباشرة، تستدعي أحد الإعلاميين “المقتدرين”، تمنحه المعلومة، ثم تطلقه في فضاء الرأي العام ليعلن “سبقاً صحفياً” يتفاخر به، بينما هو في الحقيقة يؤدي دور “الوسيط الواعي أو اللاواعي” في إعادة إنتاج رواية السلطة.
ليست القضية هنا في الإعلامي ذاته، ولا في السلطة وحدها، بل في تلك المنطقة الرمادية بين “ما يُقال” و”ما يُراد أن يُفهم”.
وهنا بالضبط تكمن حرب الوعي.
ولست أقول ذلك تجنياً أو تشكيكاً، بل لأنني أدرك أن الحرب خدعة – كما علّمنا التاريخ والفقه العسكري – لكن الخديعة حين تطال وعي الناس وتُدار باسم “المعلومة” تتحول إلى سلاحٍ مضادٍ للأمة ذاتها. وما أردت من هذه الإشارة إلا أن أؤدي عهدي القديم: أن أزود عن السودان في معركة الوعي التي تُخاض ضده.
ليس كل من حجّ واعتذر “حاجًّا”، كما أن ليس كل من تحدث في الوطنية محبًّا للوطن. فبعض الأصوات التي تعلو في الساحة إنما تصدح من مقام “التمويه لا التنوير”. و”ما كل البعاين ليك معجب بيك، يمكن……… وشاكي فيك”.
ولأن الوعي لا يُسترد بالكلام بل بالفعل، فقد ساقني القدر بالأمس إلى ثلاثة مواقفٍ جعلتني أردد بملء الفم:
يا هو دا السودان.
أولها:
لقائي في الصباح بمجموعة من الصحفيين مع مديرة مؤسسة التنمية الاجتماعية بولاية الخرطوم، وبرفقتها كوكبة من الكفاءات. ما رأيته هناك ليس مجرد إدارة، بل مورد أخلاقي وتنموي يمكن أن يُحدث فرقاً في حياة الناس، لو مُدّت إليه جسور الوعي الوطني. فهذه المؤسسة تملك من الطاقة والإمكانات ما يجعلها نموذجاً مصغراً “لسودان العدالة الرسالية” الذي نحلم به.
ومن هنا أقول لكل من يسكن ولاية الخرطوم:
اذهبوا بأنفسكم إلى مؤسسة التنمية الاجتماعية، إلى فروعها في المحليات السبع، لتروا أن في السودان ما يستحق الإشادة والفخر لا الشكوى واليأس.
وثانيها:
تشرفت بأن كنت أحد المناقشين لكتاب «فلسفتنا» للإمام محمد باقر الصدر عبر منصة نادي جذور المعرفة. هناك، وسط حوارٍ ناضجٍ جمع الشباب، لمست يقظة فكرية تبعث على الطمأنينة: أن المجتمع السوداني رغم كل شيء، ما زال يمتلك مناعة فكرية ضد الاستلاب.
وإذا كانت القوات المسلحة قد استنفرت الشعب في جبهة السلاح، فإننا نناشدها أن تدعم الاستنفار في جبهة الوعي عبر هيئات التوجيه المعنوي، لأن معركة الحقيقة لا تقل أهمية عن معركة الميدان.
فمن يسيطر على وعي الناس يملك مفاتيح المستقبل.
وثالثها:
زيارتي إلى جامعة السودان المفتوحة، ذلك الصرح العلمي الذي يمثل تجسيداً حيًّا لفكرة “التعليم كحقٍّ إنسانيٍّ مستدام”.
جامعة تُعلّمك أن السودان ليس فقيراً في العقول، بل في الثقة بعقوله.
أن هذا البلد الذي يُغنّي “نحنا بلدنا حدادي مدادي”، ما زال يملك من المنابع الفكرية ما يكفي لينهض من رماده، متى ما صارت التنمية وعياً، والتعليم مشروعاً للتحرر لا مجرد نيل شهادة.
ولعل الربط بين هذه المشاهد الثلاثة – من المؤسسة الاجتماعية إلى المنبر الفكري إلى الجامعة الوطنية – يكشف جوهر المعركة التي يخوضها السودان اليوم: ليست فقط معركة ضد عدوٍّ خارجي، بل ضد الغياب الداخلي للوعي الجمعي.
إنّ كل مشروع وطني، مهما كانت نواياه، لا ينجح إن لم يبنِ وعيًا يصون الحقيقة من التزييف، ويمنح المواطن شرف الفهم قبل شرف الولاء.
في ضوء فلسفة هنري برغسون في «بحث في المعطيات المباشرة للوعي»، يصبح الوعي ليس مجرد إدراك، بل تجربة حيّة تتجاوز الزمان والمكان، وتتحرك من الداخل إلى الخارج.
وهذا بالضبط ما يحتاجه السودان اليوم:
وعيٌ حيّ، لا يكتفي بردّ الفعل، بل يصوغ الفعل ذاته.
إن السودان اليوم يقف على جسرٍ بين ماضٍ مثقلٍ بالحروب وسيلٍ جارفٍ من التحولات، وبين موردٍ قيميٍّ لا ينضب من العزيمة والإيمان والكرامة.
وإذا كانت الأمم تنهض حين تمتلك إرادة القوة، فإن السودان سينهض حين يستعيد وعيه بذاته.
#أصل_القضية،،،
في زمنٍ تتعدد فيه الأصوات وتتشابك فيه الروايات، لا نريد أن نكون صدى لأحد، بل صوت السودان في معركة الوعي.
ولن يكون ذلك إلا حين يدرك كل سوداني أن الحقيقة مسؤولية، وأن الدفاع عن الوطن يبدأ من الدفاع عن وعيه.
فلتكن الرسالة واضحة:
في حرب الوعي،،
كما في حرب السلاح،،،
السودان لن يُهزم.
– باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية







