
اشتراكي في نيويورك: حين يهتز عرش الرأسمالية على يد مسلم من كمبالا
بقلم: أبوعبيده أحمد سعيد محمد saeed.abuobida5@gmail.com
في قلب الإمبراطورية الرأسمالية، وفي الولاية التي تُعد عاصمة المال العالمي نيويورك، صعد إلى المشهد السياسي رجلٌ من أصلٍ هندي، وُلد في كمبالا بيوغندا، يبلغ من العمر 34 عامًا، مسلمُ الديانة، اشتراكيٌّ ديمقراطي الهوى.
إنه زهران ممداني، أحد أبرز الأصوات الصاعدة في الجناح اليساري للحزب الديمقراطي الأمريكي.
فوزه في نيويورك لم يكن مجرد حدثٍ انتخابي عابر، الٍ ظلّ مؤجلاً لعقود:
هل بدأت الاشتراكية تتسلّل إلى عرين الرأسمالية النيو ليبرالية؟
من كمبالا إلى وول ستريت: رمزية العبور الطبقي والعرقي
زهران ممداني، السياسي القادم من تخوم الجنوب العالمي، يجسد في ذاته تناقضات العولمة التي صنعتها الرأسمالية الحديثة.
فبينما فتحت الأسواق أمام رؤوس الأموال والمضاربات العابرة للقارات، أغلقت الأبواب في وجه البشر المهاجرين، إلا أن التاريخ عاد ليفتحها اليوم من أوسعها: مهاجر مسلم يعتلي منصة القرار في نيويورك.
رمزية كهذه لا يمكن فصلها عن تحول المزاج الأمريكي نحو القبول بشخصيات مسلمة في مواقع عامة، وهو قبولٌ لم يُمنح تفضّلًا، بل فُرض واقعًا بفعل التبدّل الاجتماعي الناتج عن الأزمات الاقتصادية المتراكمة.
نيويورك: الولاية الغنية التي تنزف من الداخل
خلف أبراج المال والأنوار الساطعة، تعيش نيويورك مفارقة قاسية:
الولاية الأغنى في الدخل، والأفقر في العدالة المعيشية.
الآلاف من العاملين فيها لا يستطيعون السكن داخلها، فينزحون إلى ولاياتٍ مجاورة مثل بنسلفانيا، ليصبحوا عمّالًا عابرين بين ثراء الرموز وفقر الواقع.
هذه الفجوة المعيشية أفرزت سخطًا مكتومًا ضد الرأسمالية النيو ليبرالية، التي ربطت الرفاه بقدرة السوق وحده، وجعلت العدالة الاجتماعية رفاهية فكرية لا مطلبًا إنسانيًا.
الاشتراكية الديمقراطية: صوت الواقعية الجديدة
حين يتحدث زهران ممداني عن العدالة الضريبية، والرعاية الصحية، وحق السكن، فهو لا يتحدث بلغة الثورة، بل بلغة الواقعية الاجتماعية.
فالاشتراكية الديمقراطية في صورتها الأمريكية ليست تمردًا على السوق، بل محاولة لإنقاذ الإنسان من احتكار السوق.
إنها دعوة إلى إعادة التوازن بين رأس المال والعمل، بعد أن اختطفت النيو ليبرالية القرار الاقتصادي لصالح الأقلية المهيمنة على وول ستريت.
بهذا المعنى، يمكن القول إن هذا الفوز يمثل ثورة تصحيحية داخل الرأسمالية نفسها، لا خروجًا عنها.
المسلم الاشتراكي… كسرٌ لصورتين في آنٍ واحد
فوز زهران ممداني في نيويورك يحمل رمزية مزدوجة:
• كسر الصورة النمطية عن الإسلام السياسي في الوعي الأمريكي، إذ يأتي هذا المسلم من بوابة العدالة الاجتماعية لا من شعارات الهوية الدينية.
• كسر الاحتكار النيو ليبرالي لتمثيل الطبقة الوسطى، التي بدأت تبحث عن صوتٍ يعبر عن معاناتها لا عن أسهمها.
بهذا، يتجاوز فوزه حدود الدين والعرق، ليصبح حدثًا اقتصاديًا أيديولوجيًا بامتياز، يعبّر عن أزمة الهوية الرأسمالية قبل أن يعبّر عن نجاحٍ فردي لمسلم مهاجر.
هل بدأ التمرد على الرأسمالية من داخلها؟
من الخطأ قراءة هذا الحدث كعودة للاشتراكية الكلاسيكية أو كتمرد يساري شامل، بل هو أقرب إلى حركة تصحيحية داخل منظومة الرأسمالية نفسها.
لكن الأهم أن صعود هذا الخطاب الاشتراكي في أغنى ولاية أمريكية يعني أن الاحتجاج الطبقي تغيّر وجهه: لم يعد يرفع المطرقة، بل يرفع صوت العقل ضد الغلاء واللامساواة.
إنها لحظة رمزية تقول للعالم:
حين يعجز السوق عن حماية الإنسان، سيبحث الإنسان عن بديلٍ داخل النظام ذاته — حتى لو جاء ذلك البديل على يد مسلمٍ من كمبالا اسمه زهران ممداني.
الاشتراكية القادمة من الجنوب: عودة الأخلاق إلى الاقتصاد
من كمبالا، المدينة الإفريقية التي وُلد فيها الفقر والكرامة معًا، إلى نيويورك، التي وُلد فيها المال والمضاربة معًا، تأتي اشتراكية جديدة بطابعٍ إنسانيٍ أخلاقي.
إنها اشتراكية لا ترفع شعارات الطبقات كما فعلت الماركسية، ولا تؤمن بقداسة السوق كما تفعل
النيو ليبرالية، بل تبحث عن اقتصادٍ يُعيد للإنسان قيمته قبل أن يحسب عائده.
فزهران ممداني، المسلم القادم من الجنوب العالمي، لا يحمل فقط لونًا جديدًا في المشهد الأمريكي، بل يحمل ذاكرة أممٍ عاشت طغيان الرأسمالية بلا عدالة، وها هو اليوم يعيد طرح السؤال القديم بصيغةٍ أكثر عمقًا:
هل يمكن للرأسمالية أن تكون أخلاقية؟
هل يمكن للربح أن يتعايش مع الرحمة؟
ربما كانت الإجابة تبدأ من هنا، من لحظةٍ رمزيةٍ في نيويورك، حين دخل صوت الجنوب قاعة القرار الشمالي، ليقول للعالم:
إن العدالة ليست شعارًا يساريًا، بل ضرورة أخلاقية لإنقاذ اقتصادٍ فقد إنسانيته.






