
أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. النيلوكوين… ترسيخ السيادة النقدية في السودان
> رؤية الجسر والمورد: طريق السودان إلى التكامل المستدام
في التاريخ، لا تولد العملات من البنوك، بل من اللحظات الفاصلة في وعي الأمم.
حين تشتد الأزمات، وتنهار الأوراق، وتُختبر الإرادات، يكتشف الإنسان أن القيمة ليست في ما يُطبع، بل في ما يُنتج ويُؤمن ويُصان.
هكذا وُلد الفرنك الرواندي من رماد الإبادة إلى رمزٍ للنهضة،
وهكذا قام المارك الألماني من رماد الحرب،
وهكذا يمكن أن يولد من ركام الخرطوم… “نيلوكوين” السودان —
عملةٌ لا تُسكّ بالحبر، بل تُصاغ من ذهب الأرض وثقة الإنسان.
ففي زمنٍ يتهاوى فيه الورق أمام المعادن،
ويُقاس الاستقلال بمدى امتلاكك لموردك،
يُفتح أمام السودان طريقٌ جديد:
من ورق الدولار إلى ذهب النيل،
ومن التبعية النقدية إلى السيادة الاقتصادية الرقمية.
السودان في اختبار البقاء الاقتصادي
منذ اندلاع الحرب يعيش السودان على حافة معادلةٍ قاسية:
أن يصمد بلا إنتاج، وأن يموّل بعملةٍ بلا غطاء، وأن يتاجر في ظل اقتصادٍ يتآكل من الداخل.
لكن هذه ليست نهاية الطريق، بل بداية لحظة الوعي الكبرى.
فكل حربٍ كبرى تُعيد تعريف معنى السيادة،
وسودان اليوم مطالبٌ بأن يُعيد تعريف نقوده، وثروته، وطريقه إلى المستقبل.
من التجربة الروسية إلى “النيلوكوين”
حين خنقت العقوباتُ روسيا، ظنّ العالم أن الروبل سينهار.
لكن موسكو قلبت المعادلة، وربطت عملتها بالذهب، وألزمت مشتري صادراتها بالدفع بالروبل أو بما يعادله من ذهب.
فاستعاد الروبل كرامته، وارتفع احتياطي الذهب، وتحولت الحرب الاقتصادية إلى لحظة استقلال مالي.
الدرس واضح:
> من يملك مورد التسعير… يملك سيادته.
واليوم، يمكن للسودان أن يسلك طريقه الخاص عبر النيلوكوين — عملةٍ وطنيةٍ رقمية ذات غطاءٍ ذهبي، تُصدرها بنك السودان المركزي وتُقيَّم وفق احتياطي الذهب الفعلي الذي تملكه الدولة.
السودان يمتلك ما هو أعظم من الغاز الروسي
يمتلك السودان تنوعًا هائلًا في الموارد: ذهب، معادن، أراضٍ خصبة، مياه، ثروة حيوانية، وموقع استراتيجي يربط إفريقيا بالعالم العربي والبحر الأحمر.
فلماذا يُقاس غناه بالدولار، وهو يصنع الثروة بموارده؟
ولماذا تُسعّر صادراته بعملةٍ أجنبية؟
إن السودان مؤهل اليوم لإطلاق منظومة سيادية متكاملة تجعل من النيلوكوين أكثر من عملة…
بل نظام سيادةٍ اقتصاديةٍ رقمية يعيد تعريف مفهوم القيمة الوطنية.
النيلوكوين: منظومة السيادة النقدية الجديدة
النيلوكوين ليست رمزًا إلكترونيًا عابرًا، بل مشروع نهضةٍ اقتصاديةٍ متكاملة تقوم على:
●تسوية حصائل الصادر بعملة وطنية ذات غطاء ذهبي حقيقي.
●جذب الاستثمارات عبر أدوات رقمية قابلة للتحويل الذهبي.
●تمويل التجارة الإقليمية مع دول الجوار بعيدًا عن هيمنة الدولار.
●حماية القيمة الشرائية بربط العملة بالمورد لا بالورق.
المعادلة الجديدة: الذهب بدل الدولار
التحول لا يبدأ من العملة، بل من إدارة الطلب على الدولار.
حين تُقوَّم الصادرات السودانية بالذهب أو بالنيلوكوين، تصبح الحاجة إلى الدولار ثانوية،
وتنحصر فقط في التعاملات الخارجية لا في السوق المحلي.
لتحقيق ذلك، ينبغي:
●منع تسعير السلع بالدولار داخل السودان.
●توحيد حصائل الصادر في منصة رقمية واحدة تحت إشراف البنك المركزي.
●شراء الذهب من المعدّنين الأهليين بالنيلوكوين مباشرة، لرفع الاحتياطي الذهبي وتجفيف منابع التهريب.
●رقمنة التجارة الخارجية لتصبح كل عملية بيع وتصدير موثقة في سجل وطني واحد.
رؤية الجسر والمورد وتقييم خطوة بنك السودان
أعلن بنك السودان المركزي مؤخرًا طباعة فئة نقدية جديدة بقيمة 2000 جنيه سوداني في محاولة لمعالجة أزمة السيولة وتسهيل التعاملات اليومية.
غير أن رؤية الجسر والمورد تنظر إلى هذه الخطوة بعينٍ نقدية تحليلية لا مالية فحسب.
إذ أن طباعة مزيد من النقد الورقي في اقتصادٍ يعاني من ضعف الإنتاج وتآكل الثقة، تعني عمليًا توسيع الكتلة النقدية دون غطاء حقيقي — أي زيادة التضخم وتدهور القيمة الشرائية للجنيه.
في واقعٍ كهذا، الورق لا يرمم الثقة، بل يُعمّق الفجوة بين النقد والموارد.
الخطوة الصحيحة التي كان يجب أن يتخذها البنك المركزي في هذه المرحلة الحساسة ليست الطباعة، بل التحول نحو النقد الرقمي السيادي، خصوصًا وأن الأنباء الأخيرة تحدثت عن لقاء جمع محافظ البنك ووزير التحول الرقمي وطرح فكرة “الجنيه الرقمي”.
من منظور رؤية “الجسر والمورد”، كان الأنسب أن يُعلن البنك عن خطة تجريبية لإطلاق الجنيه الرقمي الذكي في قطاعات محددة (الذهب، الصادر عموما )، لتصبح تلك الخطوة جسرًا انتقاليًا نحو “النيلوكوين” لاحقًا.
فالتحول إلى النقد الرقمي لا يُعالج فقط أزمة السيولة، بل يفتح الباب أمام الشفافية، وتتبع الموارد، والحد من التزييف والتهريب، ويؤسس لثقةٍ جديدة بين المواطن والدولة.
إن طباعة الورق هي “استجابة مالية”، بينما الرقمنة النقدية هي استجابة سيادية — وهذا هو جوهر رؤية الجسر والمورد.
من التهريب إلى الشفافية
تهريب الذهب ليس تجارة موازية، بل نزيف سيادي.
فحين يُباع الذهب خارج المنظومة الرسمية بحثًا عن الدولار، يُستنزف المورد وتُفرغ الخزانة.
لكن حين يُطلق النيلوكوين بغطاءٍ ذهبي حقيقي، تتبدل المعادلة:
●المعدّن الأهلي يبيع ذهبه رسميًا مقابل عملةٍ مستقرة.
●الدولة تحتفظ بالذهب.
●السوق الموازي يتراجع لأن الطلب على الدولار يضعف.
هكذا يتحول التهريب إلى إنتاج مشروع داخل الاقتصاد الوطني،
فتُضاعف العائدات، ويُعاد بناء الثقة بين المنتجين والمؤسسات المالية.
السيادة الرقمية في اقتصاد الحرب
في زمن الحرب، يصبح المال سلاحًا لا يقل خطورة عن البندقية.
وحين تتهاوى الثقة في العملة الوطنية، يتسلل الهلع الاقتصادي قبل الرصاص.
من هنا تأتي أهمية النيلوكوين كدرع سيادي رقمي يعيد للدولة قدرتها على إدارة مواردها والتحكم في دورة اقتصادها الداخلي.
فالسيادة لا تتحقق بالخطابات، بل بالتحكم في المورد،
والتحكم في المورد لا يتم إلا بالرقمنة،
والرقمنة هي عقل الجسر الذي يقود السودان من اقتصاد الورق إلى اقتصاد المورد.
نحو مجلس للسيادة النقدية
لتحويل الفكرة إلى واقع، يقترح إنشاء مجلس سيادة نقدية مستقل يضمّ خبراء الاقتصاد، والتقنية، والتمويل، والتعدين ، يتولى:
●إدارة غطاء النيلوكوين الذهبي.
●مراقبة تدفقات الصادر والاحتياطي الوطني.
●رسم السياسات التبادلية مع دول الجوار.
●ضمان الرقابة الرقمية الشفافة على الموارد.
هذا المجلس ليس سلطة بيروقراطية، بل أداة للشفافية العليا وبوصلة لإعادة بناء الاقتصاد الوطني على أسسٍ رقميةٍ بغطاءٍ ذهبي.
التحديات والصعوبات أمام التطبيق
رغم قوة الفكرة، فإن تطبيق مشروع “النيلوكوين” سيواجه جملة من الصعوبات:
١. ضعف البنية الرقمية والمؤسسية.
٢. غياب الثقة في المؤسسات النقدية.
٣. التهريب والتلاعب بالسوق الموازي.
٤. العقوبات والضغوط الخارجية.
٥. ضعف الثقافة المالية الرقمية.
آليات الحل والتحول الذكي
●إنشاء منصة وطنية آمنة للمدفوعات الرقمية بإشراف البنك المركزي وربطها بالذهب.
●إطلاق حملة توعية وطنية حول مزايا النقد الرقمي.
●تعاون سيادي مع دول الجوار الإفريقي كرواندا وإثيوبيا لتبادل رقمي مشترك.
●تحفيز المعدّنين المحليين للانخراط في النظام الرسمي عبر حوافز واقعية.
●الرقابة الذكية والشفافية المفتوحة عبر نشر بيانات الاحتياطي الذهبي علنًا.
من التبعية إلى الريادة
ما بين النيل والذهب، طريقٌ يمكن أن يصبح جسرًا للكرامة الاقتصادية.
ليس المطلوب أن ننتظر العالم ليمنحنا الثقة،
بل أن نصنعها نحن في مؤسساتنا، وفي نظامنا المالي، وفي وعينا الجمعي.
حين تُبنى الثقة على الإنتاج والغطاء الذهبي والرقابة الذكية،
يصبح الجنيه السوداني عملة احترام قبل أن يكون وسيلة دفع.
#أصل_القضية،،،
رؤية “الجسر والمورد” تدعو إلى أن تكون العملة انعكاسًا للكرامة الوطنية،
وأن يتحول السودان من ساحة أزماتٍ إلى منصة حلول،
ومن متلقٍّ للسياسات إلى صانعٍ لها.
ففي زمنٍ يتهاوى فيه كثيرون عند العاصفة،
آن للسودان أن يزرع في العاصفة ما سيُثمر بعدها.
وهنا…
يبدأ الجسر،
وتُولد السيادة النقدية،
ويشرق فجر النيلوكوين: ذهب النيل وسيادة السودان.
* باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية



