رأي

أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. تدمير النخب… التحشيد وإجهاض العقول

| من سلسلة الجسر والمورد

> “والكلُّ إن شئتَ البناءَ مهندسٌ… والكلُّ إن شئتَ الدواءَ طبيبُ

والكلّ في علم الحديث محدّثٌ… والكلّ في علم الكلام خطيبُ

والفقه عند الناس أمرٌ هيّنٌ… فالكلّ يفتي دائمًا ويصيبُ”

هذه الأبيات ليست شعراً للطرَبة، بل مرآةٌ مُرّة لما يعيشه السودان اليوم.

ظاهرة تدمير النخب ليست مجرد فوضى رأي… بل سلاح مُوجَّه، جرى استخدامه بدقة منذ أن أطلت برأسها في ٢٠١٣م ، مع الموجة الثانية من الربيع العربي التي لم تصل الخرطوم متأخرة… بل وصلت محمَّلة بثقافة التحشيد العاطفي وعبادة “الرأي اللحظي”، دون مؤسسات أو مرجعيات.

■ من أين بدأت عملية تفكيك النخب؟

منذ ٢٠١٣م، ظهرت ثلاثة تحولات خطيرة:

١) صعود الإعلام الاجتماعي بديلاً عن النخب الطبيعية

●أصبح “الترند” سلطة، و”المؤثر” مرجعًا، و”الخوارزميات” صانعًا للوعي.

●تحولت الشاشات الصغيرة إلى غرف عمليات تُدار فيها المعارك خارج المؤسسات.

٢) تعميم الجهل وتزيينه

كما يناقش ألكسندر فاليفوف في كتابه تقلبات الربيع العربي:

> “الثورات حين تُقاد بلا نخب تتحول إلى موجات عاطفية… لا تقيم بناءً ولا تُنتج دولة.”

هذا ليس وصفًا بعيدًا… بل طبق الأصل لما جرى.

٣) تجريف الثقة في أهل الاختصاص

تم تشويه الطبيب والقاضي والخبير والاقتصادي والباحث والدبلوماسي، حتى لم يعد المجتمع يعرف من يصدّق… فصار يصدق “من يشبهه” لا “من يفهم”.

■ صناعة الجهل… أم صناعة السيطرة؟

كتاب العقل والطيبة في عالم طبيعي لريتشارد كارير يفتح نافذة مهمة:

العقل الذي لا يتدرب على التمييز يُساق بسهولة.

والطيبة غير المحمية بالمعرفة تتحول إلى نقطة ضعف.

وهنا مكمن الخطر:

تم استغلال نقاط الخير في المجتمع السوداني: البساطة، حسن الظن، الحماسة…

لتتحول إلى نقاط هشاشة في حرب الوعي.

لم يكن الهدف فقط خلق فوضى…

بل كسر بوصلات المجتمع.

■ تشومسكي وفوكو… حين يكتمل المشهد

في الطبيعة الإنسانية، يتجادل تشومسكي وفوكو حول جوهر الإنسان:

●تشومسكي: الإنسان بطبيعته عقلاني وباحث عن العدالة.

●فوكو: السلطة قادرة على إعادة هندسة هذا العقل.

في السودان…

نرى النتيجتين معًا:

●الرغبة الفطرية في العدالة: وقود الثورة.

●إعادة هندسة الوعي عبر الأدوات الجديدة: وقود الفوضى.

وبجمعهما، نصل إلى ظاهرة تدمير النخب كأخطر سلاح استخدم ضد المجتمع السوداني.

■ لماذا السودان بالذات؟

لأن السودان، كما تقول رؤية الجسر والمورد، يمتلك موردًا بشريًا خصبًا وعبقرية جغرافيا تجعل منه محورًا.

وأخطر طريقة لإخراج بلدٍ من معادلة المنطقة ليست الحرب، بل:

> ضرب نُخبه، وتجريف مرجعياته، وتكسير سُقوفه المعرفية.

حين يفقد المجتمع بوصلاته، يتساوى الخبير بالجاهل، ويتقدم الأكثر ضجيجًا، ويتراجع الأكثر معرفة… وهنا يبدأ الانهيار الناعم.

■ السودان اليوم… ماذا يحدث؟

نحن نعيش واحدة من أخطر مراحل تاريخنا:

●الإعلام الموازي يقرر من هو الخبير ومن هو الجاهل.

●الوعي الجمعي أصبح مساحة مفتوحة للاختراق.

●الصوت العالي حلّ محل التحليل العميق.

●النخب تُشوه وتُحاصر وتُستهدف.

ولم يعد الخطر في الجهل نفسه…

بل في أن الجاهل أصبح يرى نفسه بديلًا للخبير.

والآن… إلى أصل القضية: ماذا نفعل؟

وفق رؤية الجسر والمورد، لا يبدأ الإصلاح من لوم الماضي، بل من إعادة هندسة الوعي الوطني عبر ثلاث دوائر:

١) استعادة مكانة النخب الحقيقية

إعادة الاعتبار للباحث والطبيب والمهندس والقاضي والاقتصادي…

لا كأفراد… بل كنظام معرفة.

٢) تحصين الوعي من الاختراق

بناء حملات وطنية تعيد تعريف “من هو الخبير”،

وتميّز بين الرأي والمعرفة،

وبين التحليل والثرثرة.

٣) بناء منصات سودانية للمعرفة

منصات تخدم الدولة والمجتمع،

وتخلق مرجعيات جديدة محترمة،

وتترجم المعرفة إلى وعي وقرارات.

#أصل_القضية … هو الجسر والمورد

إن أول مشروع وطني حقيقي يبدأ من هنا:

إعادة بناء نخبة سودانية جديدة… لا تنكسر ولا تُكسَّر.

فالأمم لا تنهار حين تُهزم جيوشها…

بل حين تُهزم نخبها.

والسودان – بموارده ووعيه وتاريخه – لا يستحق إلا نخبة تُرفع… لا تُدفن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى