
أصل القضية/ محمد أحمد أبوبكر.. الاستلاب الداخلي… الوعي حين يسقط قبل أن تسقط المدن
| من سلسلة الجسر والمورد
عندما تتشقق فيها الأرض تحت الأقدام، لا لأنها ضعيفة، بل لأن الوعي الذي يقف عليها كان هشًّا قبل أن تبدأ المعركة.
فما بين ديسمبر ٢٠١٨م وأبريل ٢٠٢٣م، تحدثنا عن الاستلاب الداخلي باعتباره البذرة التي تفتت الوعي، وتعيد تشكيل الإدراك الجمعي لصالح أجندات لا تمتّ للوطن بصلة.
لكن بعد أبريل ٢٠٢٣م … دخل السودان مرحلة مختلفة، أخطر، أعمق، وأشد ظلمة.
لم يعد الاستلاب فكرةً… بل تحوّل إلى فعل.
لم يعد خطابًا… بل أصبح سلاحًا.
لم تعد الأزمة في العقل… بل صارت في اليد التي تضغط الزناد.
وهنا يبدأ المقال…
أولًا: من معركة الوعي… إلى معركة المدن
البجعة السوداء: لحظة سقوط الخرطوم
أبريل ٢٠٢٣م كان “البجعة السوداء” التي تحدث عنها نسيم طالب؛ الحدث غير المتوقع الذي لم يكن مفاجئًا إلا لمن تجاهل مؤشرات الوعي المكسور:
حملات منظمة لتشويه الجيش.
ترويج إعلامي خارجي لفكرة “القوة البديلة”.
نخبة مدنية تعيش استلابًا يجعلها ترى الوطن من خلال عيون الآخرين.
ثم… سقطت الخرطوم.
ليس لأنها بلا رجال.
ولا لأنها بلا مؤسسات.
بل لأن الوعي العام كان قد سقط قبلها بسنوات.
هذا هو الاستلاب العملي:
حين تسمح الفكرة الخاطئة للرصاصة الخاطئة بأن تُطلق… وللقوة الغريبة أن تعتلي المشهد.
ثانيا : الاستلاب الداخلي… وميلاد ظاهرة “الفراغ المُوجَّه”
هناك لحظات في عمر الأمم تخرج فيها الشعوب من ذاتها، لا لأنها تريد ذلك، بل لأن قوة خفية — لا تُرى ولا تُسمع — تسحب وعيها من الداخل إلى الخارج.
في تلك اللحظات ظهر أخطر تجليات الاستلاب الداخلي… ذلك الاستلاب الذي لا يكتفي بتمزيق القناعات، بل يعيد تشكيل السلوك الجمعي بما يخدم مشروعًا ليس من صُنع السودانيين، ولا من أولويات هذا البلد الذي يُحتضر منذ سنوات.
وقتئذ… لماذا هرب الناس؟ ولماذا قلد المواطن أخاه؟
لم يكن الهروب مجرد رد فعل طبيعي للدمار وسقوط الخرطوم والجزيرة وسنار ومدن دارفور.
بل كان فعلًا اجتماعيًا مبرمجًا…
تحوّل — في غضون أيام — إلى “النموذج السلوكي الأعلى”.
صار كل شخص يسأل نفسه:
“أين ذهب الآخر؟ لماذا أنا باقٍ؟”
ولأن الخوف يتكاثر بالعيون، بدأ الناس يكررون الحركة ذاتها: الهروب.
حتى تفرغت المدن من أهلها…
وتحققت — دون إعلان — تلك النبوءة القاسية:
> “العمارات حتسكنها الكدايس.”
ومن هنا ولدت واحدة من أخطر الظواهر الاستراتيجية التي ظهرت خلال حرب الكرامة:
مصطلح جديد — من قلب الجسر والمورد:
> “الفراغ المُوجَّه”
ومصطلح :
> “الفرجة الصامتة”
ظاهرة تفريغ المدن من سكانها ليس بقرار رسمي ولا بتهديد مباشر، بل عبر هندسة الخوف وتوجيه السلوك وتوليد “هجرة داخلية” تُتم بلا أوامر…
بل بـ تراكم رسائل مخفية تغذيها أدوات الاستلاب الداخلي الممولة من الخارج.
الدعم السريع لم يطلب من أهل المدن أن يخلّوها.
ومع ذلك…
أُخليت.
بهدوء… وبطريقة تكاد تكون “مُبرمجة”.
ما يؤكد أن الإخلاء لم يكن ارتجالًا بل عملية مُدارة بذكاء استلابي خارجي–داخلي مزدوج.
ثالثا: من الخرطوم إلى الجزيرة
> لاعب الشطرنج… حين تتحرك القطع بيد اللاعب الخطأ
عندما تسقط العاصمة، تسقط معها خطوط السرد.
لكن سقوط ولاية الجزيرة كشف شيئًا أخطر:
كان المواطن يعيش في لوحة شطرنج،
والخصم – كما في رواية ستيفن زفايغ – لا يحرك قطعه فقط،
بل يحرك تفكيرك… خوفك… اندفاعك… ثم يدفعك لتحريك قطعك كما يشتهي.
في الجزيرة لعب الاستلاب دوره الأخطر:
انقسم الناس بلا مشروع موحد.
تضاربت الروايات.
تجذّر الشك.
وتقدمت قوة التمرد عبر شقوق النفس قبل شقوق الأرض.
لم يكن سقوط الجزيرة عسكريًا فقط…
بل كان سقوطًا آخر للوعي في معركة كان يفترض أن تكون معركة صمود.
ثالثا: ثم جاءت مرحلة الاستلاب الأكبر…
بعد أن اكتملت حلقة الفراغ المُوجَّه، ظهرت عبارات كانت جاهزة منذ اليوم الأول:
“إنها حرب بين جنرالين.”
“إنه صراع على السلطة.”
“يجب أن يستسلم الجيش.”
“قيادة الجيش خائنة.”
“لا للحرب…” (بينما الحريق يلتهم بلدًا بأكمله!)
هذه العبارات لم تكن عفوية.
كانت جزءًا من منظومة الاستلاب الداخلي المرتهن للخارج…
منظومة تريد إقناع السوداني أن جيشه — رغم أنه المؤسسة الوحيدة المتبقية — هو العدو،
وأن من ينهب المدن ويحرق القرى هو “شريك سياسي مشروع”.
إنها محاولة لاستبدال الحقيقة بصورة مزيفة…
ولولا أن الوعي الشعبي بدأ يعود تدريجيًا، لتحول السودان إلى نسخة جديدة من دول أخرى ذهبت ولم تعد.
رابعا : سنار… عندما تتوارث المدن صدى الهزيمة
في سنار، لم يكن المشهد كالمشهد الأول.
هنا لم تكن المشكلة في السلاح… بل في الذهول.
كان الناس يشاهدون ما يحدث كما يشاهد المتفرج فصلًا من مسرحية “الذباب” لسارتر:
حالة جماعية من الشعور بالذنب المصنوع،
الذي يجعل الضحية تظن أنها مذنبة…
وأن عليها أن تدفع ثمنًا لا تعرف من أين جاء ولا لمن يُدفع.
سقطت سنار لأن الاستلاب الداخلي قال لأهلها:
“أنتم وحدكم… والمدينة أضعف من أن تقاوم.”
بينما الحقيقة أن الوعي هو الذي كان أضعف… لا المدينة.
رابعًا: دارفور… استلاب بوجهين
من السقوط المتتالي… إلى الاستثناء الفاخر
دارفور كانت الجرح الأكبر، والمختبر الأوضح للاستلاب الخارجي والداخلي معًا.
سقطت ولاياتها الكبرى واحدة تلو أخرى:
نيالا
الجنينة
زالنجي
كتم
أم كدادة
كاس
الضعين
لكن وسط هذا الانهيار…
بقيت الفاشر واقفة.
لماذا؟
لأن الفاشر – مصادفة أو وعيًا – رفضت “الذنب” الذي ألقاه الإعلام على المدن الأخرى.
رفضت أن تتحرك كقطعة شطرنج.
رفضت أن ترى التمرد كـ”منقذ بديل”.
استعادت الفاشر قرارها، ولو مؤقتًا، لأنها:
●امتلكت سردية محلية صلبة،
●وذاكرة مقاومة،
●وأرضًا تدرك أن كل قوة غريبة تمر… لكنها لا تبقى.
هنا تظهر حقيقة فلسفية عميقة:
> المدن لا تسقط لأن المتمرد قوي…
بل لأن روايتها الداخلية ضعيفة.
خامسًا: الاستلاب المرهون للخارج
> حين تحوّل المكوّن المدني من معارك الأفكار… إلى معارك البنادق
بعد أبريل ٢٠٢٣م، أصبح واضحًا أن جزءًا من النخبة المدنية لم يقع فقط في الاستلاب الداخلي…
بل وقع في الاستلاب المرهون للخارج:
●نظرية تُلقّن
●خطاب يُعاد إنتاجه
●دعم خارجي يُشرعن
●عملية عسكرية تُستخدم كأداة
وهنا يظهر عمق الانهيار:
> لقد تحولت “الحرية” من مطلب مشروع… إلى بوابة لأشرس عملية استلاب شهدها الوعي السوداني منذ مئة عام.
لم تكن الحرب حرب موارد، ولا حرب مدن، ولا حرب سلطة.
كانت حربًا على الرواية الوطنية.
من يملك الرواية… يملك النصر.
سادسًا: كيف انتصر الشر… وكيف انهزم
> “الشر لا ينتصر لأن له مؤمنين… بل لأن لديه مستفيدين”
هذه القاعدة تكشف كل شيء:
المتمردون اختاروا طريق الشر.
لكنه كان شرًا بلا مؤمنين… مليئًا بالمستفيدين.
والمستفيدون لا يصنعون مشروعًا… ولا يبنون دولة… ولا ينتصرون في النهاية.
> ولهذا، كل انتصار حققه التمرد كان انتصارًا بلا روح…وبلا وعي…وبلا مستقبل.
سابعًا: الجسر والمورد… كيف نعيد بناء الرواية؟
رؤية الجسر والمورد تقول:
١) إن المعركة الأولى والأخيرة هي معركة وعي.
٢) إن السلاح وحده لا يحمي وطنًا بلا رواية.
٣) وإن السودان لن ينهض إلا إذا فهم:
●لماذا سقطت الخرطوم،
●ولماذا انكسرت الجزيرة،
●ولماذا ارتبكت سنار،
●ولماذا تهاوت دارفور…
●ولماذا صمدت الفاشر.
وأن الخلاص يبدأ عندما نفهم أن:
> الوعي حين يُستلب… تصبح المدن بلا جدران.
وحين يعود الوعي… تبني الأمة جدرانها من جديد، حتى قبل الطوب والحجر.
#أصل_القضية
هذا المقال سهم آخر في معركة الوعي.
نحو وعيٍ قادر على أن يقول:
لا للاستلاب،
لا للتبعية،
لا للرواية المستوردة.
و”نعم” لرواية وطنية واحدة…
تبدأ من الإنسان…
وتبني الدولة…
وتصنع المستقبل.
– باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية





