
أصل القضية/ محمد أحمد ابوبكر.. الشرّ السائل… وحافة اللاشيء
| من سلسلة الجسر والمورد
– باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية
> أولم تؤمن؟!؟
عبر تاريخ الشعوب لم يسطر أن الخطر يأتي من عدوٍ واضح،
ولا من قرارٍ معلن،
بل من سيولة الشر…
ذلك الشر الذي لا يتخذ شكلًا صريحًا،
ولا يرفع راية،
ولا يعترف بمسؤولية.
زيجمونت باومان، في كتابه «الشر السائل- العيش مع اللابديل»، لا يتحدث عن شرٍّ صاخبٍ أو دموي بالضرورة،
بل عن شرٍّ مُذَاب في الحياة اليومية،
يتسلل عبر اللامبالاة،
ويستقر في فكرة أخطر:
> «لا بديل… هذا هو الواقع، وهذا أقصى الممكن».
وهنا، بالضبط، يقف السودان اليوم.
١) الشر حين يفقد شكله… ويكسب نفوذه
الشرّ السائل — كما يراه باومان — لا يحتاج إلى طغاةٍ فُجّار،
بل يكتفي بأناسٍ تخلّوا عن السؤال.
حين يصبح القبول بالخراب فضيلة،
وحين يُسوَّق العجز بوصفه حكمة،
وحين يُقنعك الخطاب العام أن ما تعيشه هو “أخف الضررين”،
فأنت لا تعيش أزمة…
أنت تعيش استلابًا للوعي.
> السؤال الآن ليس: من خذل السودان؟
> بل: متى توقّفنا نحن عن الإيمان به؟
وهنا يتحول الشر من فعلٍ إلى مناخ،
ومن قرارٍ إلى عادة.
٢) «جئنا ببضاعة مزجاة»… سردية العجز المُقنِعة
في سورة يوسف، تأتي لحظة شديدة الرمزية:
> «وجاؤوا ببضاعةٍ مزجاةٍ فأوفِ لنا الكيل وتصدّق علينا»
ليست المشكلة في فقر البضاعة،
بل في الاستقرار النفسي في موقع الضعف.
هذه الآية — حين تُقرأ خارج زمنها —
تكشف لنا منطقًا خطيرًا:
منطق من اعتاد أن يطلب الرحمة بدل الحق،
والصدقة بدل العدالة،
والتخفيف بدل التغيير.
السودان اليوم يُخاطِب العالم — وأحيانًا نفسه — بهذه اللغة:
لغة البضاعة المزجاة،
لا لغة الإمكانات الهائلة.
وهنا، يصبح الاستلاب الداخلي أخطر من أي حصار خارجي.
٣) «إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل»… حين يُبرَّر الانهيار
ثم تأتي الجملة الأخطر في السورة،
الجملة التي تُمارَس اليوم على السودان بلا انقطاع:
> «قالوا إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل»
إنها فلسفة التبرير.
فلسفة تحميل الحاضر خطايا الماضي،
وتسويق الفشل بوصفه قدرًا وراثيًا.
كم مرة سمعنا:
نحن هكذا…
هذا طبع البلد…
السودان لا يُدار إلا بهذه الطريقة…
هنا لا يُدان الفعل،
بل تُدان الهوية نفسها.
وهذا — في منطق باومان —
أقصى درجات الشر السائل:
حين يصبح الظلم مبررًا،
والانهيار مُقنِعًا،
والبديل غير مطروح.
٤) العيش مع «اللابديل»… أخطر مراحل السقوط
باومان لا يخيفك بالكارثة،
بل يُخيفك بالقبول بها.
حين تقتنع النخب أن:
لا أفق للإصلاح،
ولا جدوى من المقاومة،
ولا إمكانية لإعادة البناء،
فإن الدولة لا تسقط…
بل تُفرَّغ من معناها.
وهذا ما يعيشه السودان اليوم:
دولة واقفة على حافة اللاشيء:
اقتصاد بلا أفق،
سياسة بلا خيال،
خطاب عام بلا سؤال.
٥) الجسر والمورد: استعادة البديل من قلب الرماد
رؤية الجسر والمورد لا تبدأ من الموارد،
بل من تحرير الوعي من فكرة اللابديل.
أن نُدرك أن:
السودان ليس فقيرًا، بل مُستنزف،
وليس عاجزًا، بل مُعطَّل،
وليس بلا بدائل، بل محاصر بخطاب يُقنعه بذلك.
يوسف — عليه السلام — لم يُنقذ مصر بالبكاء على القحط،
بل بإدارة المورد،
وبتحويل الأزمة إلى فرصة،
وبامتلاك رؤية لما بعد المجاعة.
#أصل_القضية،،،
الشرّ في السودان اليوم
ليس فقط في البنادق،
ولا في التدخلات،
ولا في الفساد.
الشرّ الحقيقي
هو أن نعيش مع كل هذا
ونقول:
> لا بديل.
وهنا، تصبح المعركة الأولى
ليست في الميدان…
بل في الوعي.
الشرّ السائل… وحافة اللاشيء
فالأمم لا تُهزم حين تُقهر،
بل حين تُقنَع أن القهر قدرها.
* باحث بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية








